مستشفى العباسية..وحدة السيدات المطورة..32

القاهرة..
مستشفى العباسية..وحدة السيدات المطورة..
السبت: 20 نوفمبر 2010  -  10:00 صباحا..
خمسة أيام بعيدا عن القسم والمستشفى..
عيد الأضحى مر سريعا يا صديقي..
هانحن عدنا إذن..
*-*-*
اليوم..وسط تقارير وأوراق ومذكرات وفوضى عارمة..
تدخل "فتحية" للمكتب..تجذب كرسيا وتجلس بجواري..
سيدة متقدمة في السن..أقرب لوصف "الحاجة" كما نعرفها..
في أوقات كثيرة تظل صامتة..تتأملني بهدوء..وتشرب من زجاجة مياه بجوارها كل حين..
وفي أوقات أكثر..تتحدث..وتتحدث..وتتحدث..
اليوم اختارت أن تتحدث كثيرا..عن أسرارها الخاصة على حد تعبيرها..
تحكي لي عن شبابها..عن زواجها..وعن زوجها..الذي يعاملها بقسوة بالغة..والأطفال الذين كانوا يرفضون الذهاب للمدرسة..عن السفر إلى "ليبيا"..
هناك تحكي لي عن "ثلاجتها" التي ادخرت أموال لتشتريها..عن "البوتاجاز" المستعمل الذي وجدته ملقى في الطريق فأخذته لمنزلها..عن الجمارك على الأشياء التي تعود بها من هناك..تحكي عن "باكيتات الشاي" التي تخبئها بداخل الأجهزة..
(هل كان الشاي المستورد ممنوعا في ذلك الوقت لدرجة تخبئته..؟)
ثم تحكي عن جنون زوجها الذي ذهب ليتزوج بأخرى..كما فعل والدها المجنون هو الآخر..
تحكي عن حياتها وهي "بنت"..عن دورتها الشهرية..
تحكي عن والدها..عن الصعيد حيث نشأت..عن إخوتها..عن أولادها الذين انقطعوا عنها وقاطعوها منذ زمن بعيد..
(أولادها كانوا قد أودعوها في العباسية على اعتبار أنها دار للمسنين..ويقومون بزيارتها كل حين وبانتظام..لكنها كانت أصدق تعبيرا حين اختارت لفظ: انقطعوا عنها..)
أسمع منها كل تلك الحكايات..وأبتسم ابتسامة خفيفة هادئة..وهمهمة غامضة..
ربما تفهم منها أنني أشجعها على الاسترسال..فتحكي..وتحكي..وتحكي..
لم أكن أريد الانغماس في الحكايات لهذه الدرجة..
كنت مشغلا بكل الفوضى المنبعثة أمامي يومها..
لكنني ظللت أسمعها..
وأسمع صدى الحكايات..
*-*-*
أنا لدي أصول ريفية..وقد قضيت مع والدي الشطر الأعظم من حياتي حتى هذه اللحظة في الخليج..السعودية تحديدا..
لذلك كل حكاياتها تلك كإنها تكرارا ماسخا مؤلما لما عايشته مع والدي..
كنت صغيرا..وظللت صغيرا حتى بعد أن وصلت للمرحلة الأولى الثانوية..
وحتى بعد عودتي أيام الثانوية العامة..واستقراري بمصر بعيدا عنهم..
كنت صغيرا..لكن من قال أن الأطفال لا يملكون حكمة الفهم..؟
*-*-*
منتصف السبعينات تقريبا..
تلك الفترة اللعينة التي بدأت فيها مصر بالتحول إلى جهاز طرد عملاق..لكل أبنائها تقريبا..
أطباء ومهندسون ومدرسون وقضاة ومحامون وصحفيون وأدباء وعمال مهرة وعمال غير مهرة وفلاحون وعاطلون..
الكل بدأ في الخروج..
ليبحث عن مصدر أوفر للرزق..أو يهرب بحياته..أو بحثا عن عالم أفضل..
كانت تلك مرحلة انتقالية ستتغير بها مصر كلها منذ ذلك الحين..
ولم يبق إلى من لم يستطع الخروج..أو من كانت مصالحه مرتبطة بكل هذا..
الكل تقريبا راح..والكل كان يملك ذات الحكايات تقريبا..
البعض سافر شرقا..لبلاد الخليج كما فعل والدي..والبعض سافر غربا..لبلاد ليبيا..
البعض سافر شمالا..هجرة وبلا عودة..
والبعض عاد..ربما بثروة صغيرة..أو عاد بخفي حنين..
البعض عاود السفر..والبعض اكتفى بما قدمته يداه..
لكن الكل ذاق الأمرين..
والغربة كانت الأكثر مراراة..
لذلك لم يكن غريبا أن أفهم كل ما تقوله السيدة..
*-*-*

ما زلت أسمع من السيدة..
الحكاية الأخيرة عمن ذهبوا وتركوها هنا..
ربما فيا عدا أخ غير شقيق يسأل عنها كل حين..ومكالمات هاتفية على مسافات بعيدة..
ربما تكون هذه المرارة الأخيرة..الأكثر ألما..
أن تدرك أنك صرت والعدم سواء..
أثرا باهتا يجاهد كي يبقى..ضوءا باهتا يذكرك بما سبق..
ورجاء يغلبه اليأس أن تعود لحياة سابقة، بما تحمله من مرارات..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قسم الجراحة - حوادث 3

مستشفى العباسية..العيادات الخارجية..17

مستشفى الأطفال..8