مستشفى العباسية..وحدة السيدات المطورة..29

الزقازيق..
المنزل..
الجمعة: 29 أكتوبر 2010  -  في ذلك الوقت الأخير بع صلاة العصر..
كنت أريد أن أذكر لك حكاية يا صديق..
أنت تذكر تلك الفتاة التي كانت محور الدرس العملي يوم الأحد 3 أكتوبر..
كان اليوم العلمي بحضور د.فخر الاسلام في قسم المودعات..
أنت تعرف قسم المودعات..هو القسم الذي يتم إيداع المرضى فيه للعلاج حتى الشفاء –وهو مالا يحدث- بعد ارتكابهم مخالفات قانونية من جراء المرض النفسي..
في القانون..من يقوم بارتكاب جنحة أو جناية..نتيجة ضلالات أو هلاوس أو سلوك مضطرب أو لأي شيء آخر نابع من المرض النفسي لدى المريض..وهو غير واع لما يفعله..يتم اعتباره غير مسؤول عن تصرفاته..وتوقف القضية..ويحكم القاضي بإيداعه لدى مستشفى الصحة النفسية حتى يبرأ..
أنا لا أعرف نص المادة تحديدا..ربما أراجع القانون المصري الخاص بالعقوبات لأتأكد من النص بحرفيته..
لكن المشكلة الصغيرة هنا هو تعريف معنى: "يبرأ"..
علميا..لا يوجد تعريف واضح لكلمة "برأ من المرض" في الطب النفسي..ككل شيء تقريبا في هذا الفرع..هلامي وقابل للتفسير على عدة أوجه..
المعنى الصحيح هو مريض مستقر..ولا توجد لديه أعراض حادة تسيطر على إدراكه للواقع..
ربما كلمة "تعافي" هي الأفضل هنا..برغم استخدام الكلمة أكثر في الإدمان..
إذن..
يتم إيداع المريض بعد فترة طويلة تحت الملاحظة في وحدة الطب الشرعي..وبعد النطق بالحكم أخيرا..في أقسام المودعات..
ونظرا لأن أعداد المدانين في القضايا من الرجال أكثر كثيرا من السيدات..فقد تقرر في وقت ما اعتبار مستشفى الخانكة هي مقر وحدات الإيداع للرجال..وتقرر تحديد قسم في وحدة السيدات للإيداع للسيدات..
تأمل الاسم يا صديقي..
"إيداع"..
لا أدري الدلالة اللغوية تحديدا..
لكن بشكل ما أو بآخر أسمعها تتردد مصحوبة برنين يعني الجمادات التي لا روح فيها..
*-*-*
حين سمعت بلدة المنشأ والإقامة للمريضة من الطبيب الذي يقدم الحالة..رفعت رأسي باهتمام..
بلدياتي..
"إيمان"..تم تحويلها للمستشفى بعد اتهامها بجريمة سرقة "أنبوبة غاز"..
أتأملها..سمراء..ممتلئة قليلة..أقرب للقصر..شعرها حال لونه بفعل صبغات ومواد كاوية رخيصة..
من الطبقة الشعبية المطحونة..في قرية بعيدة تتبع الزقازيق..
لا تتذكر الفتاة غير أنا سارت مسافة طويلة..ركبت القطار للقاهرة على غير هدى..لم يسألها أحد عن تذكرتها..ربما بسبب شكل أعراضها الواضحة آنذاك..
لكن الفتاة لا تتذكر أي شيء عن قصة الأنبوبة هذه..
المريضة لديها اضطراب وجداني ثنائي القطب..وهذه حقيقة أن المريض لا يذكر شيئا غالبا من كل ما مر به..
ربما يتذكر اشياء مضطربة ضبابية كحلم غامض..
(كان هذا في عز الحكايات التي يتم تداولها عن بلطجة الداخلية..فكرت ساعتها أنه ربما يكون الأمر لا يعددو تلبيس قضية لشخص غير مسؤول عن تصرفاته فقط لا غير..لكن أعتقد أن ذلك كان محضر خيالات)
في المعتاد..يترك الناس الشخص غير المسؤول عن تصرفاته "المجنون" بدون حساب..ربما الموروث الشعبي الذي يجعلهم يعتقدون فيه بصفات سحرية..أو ربما بقايا طيبة في شعب مطحون..ألف الفقر والمرض..فاجتمعوا على ألا يضيفوا لعلات المريض علة أخرى..
لكن لسبب ما..تحركت الأمور على غير المعتاد.. وتطور الموضوع لقضية وقاضي يحكم..و "إيداع" لشخص غير مسؤول عن تصرفاته لدينا..
توجد الفتاة لدينا من شهر يونيو الفائت..بطبيعة الحال لا يعرف أحد الاستدلال على أهلها برغم الاسم الثلاثي الواضح والعنوان..
حسب تقرير الأخصائي الاجتماعي فقد تم إرسال خطابين للعنوان الذي ذكرته الفتاة بلا استجابة؟؟
شيء طبيعي جدا كما ترى..
الفتاة متحسنة –شيء جيد لطبيعة المرض- وقد تم الموافقة على خروجها قريبا..
في النهاية سرقة "أنبوبة غاز" لا تعدو شيئا مقارنة بجرائم أخرى لا يحرك أحد ساكنا ضدها..
اقترح الطبيب -د.رضا علي- أن يتم إرسال مذكرة للقسم التابعة له في محل إقامتها..
لكنني كنت أعرف ما سيحدث..وهو شيء طبيعي أيضا..
لن يتم الاستدلال على العنوان..
*-*-*
كنت أنا طيلة الجلسة متحيرا..
هل أعلن عن محل إقامتي..وأعرض المساعدة..أم أظل صامتا..
في النهاية طلبت من د.فخر الإسلام أن أتدخل وأحاول أن أتواصل مع الأهل..
أخبرني أنه لا بأس..طالما أنني أستطيع الذهاب..
(في دورة تدريبية ما..كان يتم عرض حالة في وجوده..وطلبت المريضة من طبيب متواجد معنا أن يقوم لها بخدمة ما..أمر يتعلق بملفها أو شيء من هذا القبيل..المريضة كانت لديها ضلالات اضطهاد..وفصام "بارانويا"..هز الطبيب رأسه وأخبرها بأنه سيفعل ذلك..يومها انتفض د.فخر الاسلام..وقال بلهجة مشددة أنه لا ينبغي أبدا أن تعد مريضك بشيء لن تستطيع فعله..لأنك شخصيا لا تستطيع..أو لأن طبيعة المرض ستمنعك من ذلك..
وحتى لو كان مريضا..وحتى لو كان لمسايرته..
حفر المشهد في ذاكرتي جيدا..ولن أنساه أبدا..)
في نهاية اليوم وحين خروجنا من القاعة..تقف أمامي مترددة وتنظر إلي قائلة: -ستذهب يا دكتور..
أوميء برأسي..وأخبرها أنني سأذهب..
*-*-*
حتى يوم الخميس 7 أكتوبر لم تنقطع الاتصالات من أهل المريضة..
كنت قد ذهبت يوم الثلاثاءفي نفس الأسبوع لعنوانها الذي قالته بالتفصيل..قرية ما..في طريق أبو حماد..قرب الزقازيق ببضعة كيلومترات..أمام مسجد مشهور..
هناك محل بقالة صغير تقف فيه سيدة ما..كما قالت الفتاة..هذا محل فلان الفلاني الذي سأساله عن فلان الفلاني ومنه سأصل لأهلها..
أسأل السيدة عن فلان الفلان..تسألني كالعادة عن سبب سؤالي..أنا غريب..
بصبر بالغ أخبرها عني وعن سبب بحثي..
تسألني في فضول مقيت عن مرض الفتاة..لا أرد..
وبنفاذ صبر أعود للسؤال الأصلي..تشير لمنزل ما..وتقول هذا هو بيت فلان الفلاني –الثاني- لكنهم رحلوا عن هنا..
أسألها عن وسيلة للاستدلال على المكان الجديد..
تنادي صبيا..يذهب الصبي لينادي فتى في محل ألعاب إليكترونية "سايبر" يعرف الأخ..
بنظرات متشككة مخلوطة بفضول كبير..يسألونني عن هويتي..وعن علاقتي بالأمر..وأن الفتاة مختفية من فترة طويلة..
(تعاملت في تلك الأيام بحسن نية بالغ..)
أخبرهم أنني طبيب بمستشفى العباسية..وأن لدينا فتاة تدعى كذا..متواجدة لدينا لعدم استدلال لشرطة على الأهل..
أحاول أن أضيق كلماتي بقدر الإمكان..لم أخبر أحدا بمرضها ولا أي شيء آخر يتعلق بها..لا أعرف من هؤلاء أصلا..
أترك هاتفي لديهم وأخبرهم أنه من الأفضل أن يتصل بي أخوها أو أي شخص من العائلة..
أمضي في طريقي..
وأعود لمنزلي..
*-*-*
في اليوم التالي تلقيت الاتصال من الأخ..تأكدت من هويته بقدر الإمكان..أخبرته بالتفاصيل..
ليخبرني أنه سيذهب يوم الخميس للقائها..
بعد قليل..تتصل بي سيدة..تخبرني أنها الخالة..
اللعنة..ما صلتك أنت بالأمر..؟
أخبرها بالأمر مجددا..فتكرر لي نفس الكلام..يوم الخميس..
عاود الأخ الاتصال بي مجددا..وأعطى الهاتف للأم..ياه..أخيرا..
كان الاتصال للشكر هذه المرة..
عفوا..
هل ننتهي إذن..؟
*-*-*
ثم يوم الخميس صباحا..لم أكن في المستشفى أساسا..يسألني الأخ مجددا عن المكان المحجوزة فيه..
أخبره مجددا باسم القسم..يخطيء فيه..
أطلب منه أن يعطي الهاتف لأحد من الأمن الواقفين على البوابة في المستشفى..أخبره بالتفاصيل..
أنهي الاتصال..
وأتمنى أن ينتهي الأمر فعلا حين يستلم المريضة الأهل..
وأتمنى أن تتوقف الاتصالات..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قسم الجراحة - حوادث 3

مستشفى العباسية..العيادات الخارجية..17

مستشفى الأطفال..8