مشتول السوق..وحدة المنير..35

مشتول السوق..
وحدة المنير..
13 – 8 – 2009  -  11:00 صباحا..
لا أتذكر كثيرا من العاملين معي في هذه الوحدة الصحية المنكوبة..
ربما انطوائي الطبيعي عن البشر..وغربتي عن البلد وأهلها..هذه الغربية المزدوجة..لم تمكنا لي الكثير من التعامل مع أي منهم في شكل طبيعي بكثير أو قليل..
ربما يصادف أن تركب في سيارتي ممرضة في طريق الذهاب يوما..
أو أقابل إحداهن في طريق الإياب يوما آخر..في مؤخرة صندوق مغطى على ظهر سيارة نصف نقل..
حتى زملائي الأطباء..
لايتصادف كثيرا وجودنا سويا..
جزء من فساد منظومة الصحة هو تكدس بعض الأطباء في مناطق..وحرمان مناطق أخرى من الأطباء بشكل عام..
فنقوم بتقسيم أيام الحضور..وهو أمر غير رسمي بأي حال من الأحوال..
مما يجعل سيف الرقيب "الوزير/مدير المديرية/مدير الإدارة/مفتش/محافظ/موظف من الوحدة المحلية/أي شخص يشعر ببعض الفراغ/أي حد معدي..إلخ" مشرعا طول الوقت..ومسلطا نحو عنقك دوما..
بانتظار اللحظة التي تغفل فيها عينيك عن طريق القطيع..
بانتظار اللحظة المناسبة..
وما أكثرها –وأكثرهم- في الحقيقة..
*-*-*
إذن.لم تربطني بأحد علاقة صداقة من أي نوع..
لامشاعر في الموضوع إذن..وهي كانت لتصبح رابطة عمل احترافية رائعة..
فقط لو كان هناك عمل من الأساس..
ربما لو اعتبرت الكراهية العارمة..المقت..شعورا عاما طاغيا على أي مشاعر أخرى لي هنا..
لم يسمح لي بأن أحب أو أعجب بأحد ما..فضلا عن مكان ما..
تحدثت عن مديرة الوحدة..
تحدثت عن زميلي القادم من القاهرة..وهو أوفر حظا مني بكثير..
ربما لم أتحدث كثيرا عن الصيدلانية المسؤولة عن الأدوية في الوحدة..
ربما لأنني تجاهلت وجودها من الأساس..ربما لأنه لا يوجد الكثير من الاحتياج لها في الحقيقة..
لأنه أولا الصيدلية في غرفة الكشف..ولأنه ثانيا..الصيدلية لاتحوي الكثير أصلا..
هناك الرائدات الريفيات..
وقلت سابقا أني لا أدرك الفرق بينهن وبين الممرضات اللاتي يعملن هنا..
كلهن من أهل البلدة..أو من القرى والعزب من حولها..كلهن يرتدين ذات الأسمال خارج العمل..وذات المعطف الأبيض الطويل داخل الوحدة..كلهن يحملن ذات الأطفال الرضع..كلهن بذات الامتلاء..
لم يتبق سوى شخص أو شخصين..
المهنة الرسمية هي:كاتب الوحدة..
اما في الحقيقة..فهو كل شيء آخر غير هذا..
*-*-*
تحدث د.نبيل فاروق سابقا في مذكراته كطبيب وحدة ريفية في عمق الجبل في الصعيد..عن مآسي مشابهة لما أحكيه..
ربما لم يتحدث باستفاضة عن كل التفاصيل التي أرويها..والتي شكلت لي جزءا من حياتي للأبد..
لكن على الأقل تحدث عن الإمكانيات المعدومة للوحدة الصحية..والتراتبية الإدارية التي تحمل طبيب الوحدة كل شيء..ولو كان وحيدا على الأخص في وحدته..
لك أن تتخيل أن كل تلك المغامرات حدثت في سنة 1984..
أي أن كل تلك الأحداث المتشابهة لم تتغير عبر عشرين سنة تقريبا..!!
كل شيء ثابت على ماهو عليه..
فقط..نحن –الأطباء الشبان البائسون- نأتي ونذهب..
كمأساة إغريقية مكتملة الأركان..
*-*-*
تحدث عن وسائل المواصلات العفنة..التي تجمع الأرواح في منافسة مع ملك الموت..تحدث عن البنية التحتية المنهارة..تحدث عن السرقات والأوراق المزيفة التي كان يقوم بها الموظف الوحيد معه..كاتب الوحدة..
كتب عن اسمه "حجاج"..
وأذكر أنه وصفه كبير الذئاب..وانه لص..وأنه خط الصعيد..إلخ..
ربما لم يكن الكاتب في الوحدة لدي على كل هذا القدر من التوحش..
ربما لأننا لسنا في الصعيد..
ربما لأننا –مهما يكن- لازلنا نقبع في النور..الدلتا..
ربما لأن الأمر لم يعد الغلبة فيه لهؤلاء..مع توفر أعداد أكبر من الأطباء..ومع توفر رقابة أكبر عليهم..
ربما لارتفاع مستوى التعليم والوعي بشكل نسبي..
ربما هو أي شيء آخر..
لكني في الحقيقة لا أذكر عنه الكثير..
ولا أذكر حتى اسمه.."محمد سعيد"..؟ ربما..ربما هو كذلك..
دوما كان هناك في خط سير مجهول..
يأتي بالراتب المنقوص منه خمس جنيهات كالعادة..يقوم بصرف فواتير الأدوية..في الإدارة محملا بأوراق ما..في الإدارة مرة أخرى عائدا بالأوراق السابقة..في وحدة أخرى لطلبية ما..يحمل معدات طبية لتطهيرها..في رقابة ما على منطقة ما..
اي شيء من أي نوع..إلا التواجد في الوحدة وقطع التذاكر التي هي من مهامه الوظيفية..
بالإضافة لمليء الشهادات الورقية بالولادة والتطعيم والوفاة وغير ذلك..
 الخلاصة أن هذا الرجل كتلة هائلة من النشاط..
لكنه نشاط من نوع خاص جدا..
لايراه أحد على الاطلاق..
*-*-*
ياصديقي..
ياصديقي..
أنت صديقي الوحيد في وحدتي –أقصد وحدتي الصحية لا وحدتي النفسية- هذه..
أرجوك..لا تتخلى عني..
لايوجد أحد لي هنا غيرك..
لاتتركني لمثل هؤلاء أرجوك..
أرجوك..


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قسم الجراحة - حوادث 3

مستشفى العباسية..العيادات الخارجية..17

مستشفى الأطفال..8