مشتول السوق..وحدة الصحافة..3

مشتول السوق..
وحدة المنير..
25 – 10 – 2014  -  2:30 ظهرا..
على باب الوحدة..كنت قد اكتشفت شيطانا شابا صغيرا قابعا هناك..
يرمق كل ماحوله بلا اهتمام حقيقي..الداخلين والخارجين..العاملين والذين لاعمل لهم..
لابد أنه كان ضحية تكليف لإدارته هو الآخر..ولم يكن من أمره شيئا حين أجبروه على البقاء هنا..
أو ربما يقضي فترة عقوبته..
ألقيت التحية..زفر بضيق..وأدار وجهه الناحية الخرى..
لم يغضبني تصرفه..لابد أنه يقبع هنا منذ فترة طويلة بلا أي شيء حقيقي يفعله..
لا بأس..
سنحاول أن نضع استراتيجية توافق فيما بيننا..سنكون زميلي عمل..وربما تنشأ بيننا صداقة ما..
لكن عليه أن يدرك من هو الذي له اليد العليا هنا..
لابأس ياصديقي من بعض الاحترام في النهاية..
*-*-*
أبتعد بنظري قليلا لأحدث كاتب الوحدة..
عجوز بعيني ثعلب..محدودب الظهر..ويعاني من إصابة قديمة بشلل الأطفال بإحدى قدميه..
كنت أنفر منه..كنت أكرهه في الحقيقة..
لا أدري سبب ذلك الشعور الكاسح..لكنه حقيقي جدا..وموجود..
أخبرني أنهم بانتظاري..
من هم..؟
فريق الحملة طبعا..
إذن..كيف أذهب يارفيق..
لاتقلق..نحن بالخدمة..
ثم أخرج لأجد وسيلة مواصلاتي..
دراجة نارية..يملكها المراقب الصحي..الذي يبدو أنه كان سعيدا بهذه المهمة..
أنا سأركب دراجة نارية..خبرة لم أعهدها منذ أيام الطفولة الأولى..
*-*-*
بضع أمتار خلف الرجل على الدراجة بعد انطلاقها..أجد موظفا آخر..
كاتب آخر بالوحدة..يمتلك سيارة صغيرة..يقابلنا عائدا من هناك..
لسبب ما..ربما يكون أريحية منه..وربما يكون عملا صالحا لي في سابق حياتي..ياخذني الرجل معه إلى هناك..
بضع دقائق..
ثم نصل..
مرحبا بكم..!
*-*-*
مرحبا بكم..!!
مدرستي جميلة..منتجة..مثالية..
جملة لطيفة على  سور المدرسة..
جملة مكتوبة بخط متواضع..على خلفية متواضعة..أفرغت من كل المعاني العميقة التي تحملها..لكي تصبح خفيفة الحمل حين تعلق على سور المدرسة المتآكل..
أِشبه بالجمل التي تملأ خلفيات سيارات النقل.."ناجيها..تلاقيها..اوعى تيجي جنبيها..علشان ربنا حاميها..إلخ"
أو بالجمل التي ترفعها الأحزاب السياسية وحركات المعارضة في مصر.."شباب مصر..هيعمر مصر..مستقبل مصر..في الورقة دي..الاسلام هو الحل..إلخ.."
المفترض أن المدرسة تابعة للأزهر..منارة الاسلام الوسطي العتيقة..والتي تعمل على نشر ثقافة التسامح وقبول الآخر والوطنية ورفع كفاءة الدعاة والعلماء وضخ امكانيات التعاون الاسلامي الحنيف عبر التواصل البناء..إلخ..إلخ..
لا بأس..
المدرسة التي أصبحت معهد..والتي بنيت وسط أراض زراعية سمحت بتمدد المزيد من البيوت العشوائية حولها في كل مكان..المدرسة هكذا تعبر عن الجملة العميقة السابقة تماما..
كما تعبر عن كل شيء في مصير هذا البلد البائس..
اتطلع للفصول بالداخل..
لوجوه المعلمين المنحينة..بملابسهم الباهتة القديمة البالية..ووجوه الأطفال الشاحبة..والمصابين بتأخر نمو جعلهم أشبه بالأقزام..وضعف بنيان أجسادهم الذي يتهاوى تحت ضربات مبرحة من قبل المدرسين..
منظومة قهر متكاملة..
إنهم يعدون عبيدا..لا طلبة..
يعدون أشخاصا مشوهين..جهلة..لافارق بينهم وبين أي حيوان شرس الطباع في هذه البلدة..
كنت مذهولا..
أنا لم يسعدني الحظ بالالتحاق بمدارس مثل هذه..كنت طفلا مغتربا..التحق بمدارس أهلية في بلاد الخليج..ثم التحق بالدراسة المصرية عبر نظام الدراسة من المنزل..والتقدم لامتحانات السفارة.."أبناؤنا في الخارج"..ثم عدت مصر في المرحلة الثانوية..
لمحة خاطفة قضيتها وسط نظام التعليم..الذي كان يعد أفضل حالا من باقي القطاعات في منظومة التعليم الحكومية المتهالكة..
ومهما بلغ بي التصور..فلم أكن لأصل لهذه الدرجة من تخيل كابوس مثل هذا..
منظومة التعليم الأساسي التي هي جزء من منظومة التعليم العام..فاسدة تماما..
مثلها مثل منظومة الصحة..
اللعنة..ألف لعنة..
أي دولة هذه التي تصاب فيها منظومتي الحضارة فيها –جناحي النهضة- بمثل هذا العطب..ولا تنتفض لمواجهته..؟!
أنا في الجحيم..
أنا في الدرك الأسفل منه..
*-*-*
لم أدر كيف مر اليوم..
لم أدر كيف عبرت كل هذا بسلام..
كنت أنظر فقط من بعيد..أرى الأشياء تتحرك..
الممرضات يملون المحاقن..والأطفال –الذين يبكون برعب من منظر هؤلاء السادة ماسكي الابر المؤلمة- يتلقون التطعيمات في أكتافهم كما تتلقى فراخ المزارع حقن الهرمونات والفيتامينات لزيادة وزنها..
أفكر وأنا أثبت عيني في وجه طفلة بريئة باكية..رهافة وجهها..وشحوبها البلغ..بينما هي تنحشر في دكة خشبية بين اثنتين آخرتين..
أبتسم لها بمرارة..
وأفكر..
ربما فراخ المزارع أسعد حالا..
*-*-*
نهاية اليوم..
أتساقط من الإعياء..

أفر من هذا الجحيم عبر مبعوث السيد ناقل الهالكين وأصحاب الخطايا..
,لا أرغب إلا بالنوم..

تعليقات

  1. عود حميد صديقى العزيز ... كنت أفكر فى تسجيل بعض الخواطر عما يحدث لى فى " جحيم التكليف " ... حينها تذكرت المدونة ... قلت لنفسى لا فائدة فهناك من سجَل حياتى المستقبلية وكأنه عاش حياته وحياتى ... رائع يا صديقى ... لا تطل الغياب ...

    ردحذف
  2. أهلا بيك دايما..
    رايي..إنك تكتب..ممكن التجارب تتشابه..بس الحقيقة إن كل تجربة ليها خصوصية مستقلة تماما عن غيرها..
    اكتب ياصديقي..
    على الأقل..انت بتوثق حياتك..
    :)

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قسم الجراحة - حوادث 3

مستشفى العباسية..العيادات الخارجية..17

مستشفى الأطفال..8