مشتول السوق..الخلاص..الجزء الأول..

مشتول السوق..
الأيام الأخيرة مابين مديرية الصحة في الزقازيق والإدارة الصحية والوحدة..
ممتدة من يوم 15 فبراير 2010 وحتى يوم إخلاء طرفي من إدارة مشتول السوق في يوم 24 فبراير 2010

أقف أمام مبنى المديرية بجوار مبنى المحافظة..
آخذ شهيقا عميقا..
وألقي بنفسي وسط الداخلين..
*-*-*

هل تذكر أيام التكليف الأولى..؟
الأيام العظيمة التي لم تكن تدرك فيها أي شيء..أو معنيا بأي شيء سوى إنهاء أوراق تكليفك واستلامك العمل بالفعل..
إنها الأيام تعود مرة أخرى يا صديقي..
قد مر ما يقرب من العام..أكثر من ثلاثمائة يوم مر عليك في هذا العذاب المقيت..
وها أنذا فقط أهرب من هذا الجحيم لمكان آخر ربما يكون أقل بؤسا..
أبدأ من مكتب مدام فلانة في الطابق الثاني..
آخذ تأشيرة وخطاب لمكتب الأستاذ فلان في الطابق الثالث..وتأشيرة من السيدة مديرة شؤون العاملين في الطابق الثالث أيضا..في المكتب المجاور..
أهبط للأسفل..أتسلم أصل الخطاب..أهبط للدور الأول..اتلقى الخاتم صاحب الشعار الرسمي للدولة..
أتذكر ذلك النسر المصلوب للأبد..؟
نعم..هو ذاك..
مثلك..يتوق لالتقاط حريته..
والذهاب بعيدا..
*-*-*

انتهت الدورة الأولى..وبدأت دورة أوراق أخرى شبيهة بالفائتة..
لكي لا يطول الأمر..أنهي كل الدورات..مع قدر لا باس به من تصوير المستندات..
هذه خطوة لا بد أن تتذكرها دوما..وإلا وجدت نفسك بعد سنوات طويلة مطالبا بصورة من مستند ما..مر عليه اكثر من عشرين عاما..وستقضي عشرين عاما أخرى للحصول على نسخة من ذات المستند..
أتسلم امر الإخلاء الموجه للإدارة..
أبتسم..أقول لنفسي إن غدا لناظره قريب..
*-*-*

حين أصل للإدارة..أتحرق شوقا لأنظر في عيني المدير الوغد وأنا أسلمه خطاب التسليم الذي سيقوم بتنفيذه مرغما..
لكن الحظ جعلني ألقى فقط نائبه..
ذلك القصير صاحب الشنب..
لا بأس..أكاد القي الورقة في وجهه..وأخبره بأني أريد أن أرحل حالا..
أتلقى توقيعه..أسلم الخطاب لموظف ما..يمهره بعدة توقيعات..ولموظف آخر..يمهره بتوقيعه الكريم هو الآخر.ثم..إلخ..إلخ..
حتى أصل مرة أخرى للنسر المصلوب على النسر..
هذا نسر سيء الحظ..
فهو سيظل حبيس هذا الخاتم..
في هذه البلدة إلى ما شاء الله..
*-*-*

أصل للوحدة أخيرا..
أحمل معي أمر الإخلاء..
ربما لم تصور أحد أنني سارحل بهذه السرعة..
أنا لم أكمل أيام ثلاثة هنا..
لكنها كان من أفضل الأيام التي عشتها على الاطلاق في هذا المكان المقيت..
كنت سعيدا..
صحيح أنني مرهق من فرط كل تلك المشاوير..
لكنه قرب الخلاص..
لم أخرج بعد من جحيم التكليف..لكنني على وشك..فقط أذهب في مكان انتقالي..أستجمع أفكاري بعض الشيء..ثم أنتظر نتيجة حركة النيابات..
نظرت للوحدة حولي..
نظيفة حقا..نظيفة وتدخلها الشمس من كل جانب..
وكاتبها يحدثني بلطف وطيبة..يذكرني بوالد زميل في نفس دفعتي خدم معهم هنا سابقا..رحمة الله عليه..
أنهي أوراقي في صمت..وفي سلاسة..
ينهي الرجل معي كل شيء أثناء حديثه معي..
أقول لنفسي لم لم آت هنا منذ البداية..
لربما تغيرت أمور كثيرة..
ربما تغيرت أمور كثيرة يا صديقي..
أنفض عن رأسي كافة الأفكار..
أفكر مرة أخرى أنهم يستحقن علبة شيكولاته..على سبيل المجاملة..
لكنني أتذكر أنني لا املك من حطام الدنيا شيئا الآن..
ألقي السلام..
وأذهب عن هنا للمرة الأخيرة..
*-*-*
لعدة ايام متواصلة..في الإدارة مرة أخرى..
طوال هذه الأيام..كنت أنهي المزيد من الأوراق..
لا بد أن نصف غابات العالم قد نفذت بسبب كمية الأوراق التي استهلكت في هذه التحقيقات..

تحقيقات مكومة..متنوعة..وعقابا أسطورية أشبه بأسواط تنهال عليك..
لكنني أبتسم..
أقول لهم: افعلوا ما شئتم..أنا راحل عن هنا..
يقومون بتوقيع جزاءات وخصومات واستقطاعات من مرتبي..
أبتسم..
يقولون وقع هذه الورقة من أمين العهدة..لا أتساءل كثيرا..توقفت عن التساؤل..عن أي عهدة يتحدثون..
أقوم مبتسما..أبحث عنه..أوقعها..ثم أعود..
وقعها من أمين المخزن..أبحث عنه..هل هو أنت..لا..ربما هو أنت..لا..حسنا..سآتي في يوم آخر..
في اليوم التالي ألقاه مبتسما..يوقع لي..أعود لهم..
يتجهمون في وجهي..هناك توقيع ناقص..
أبتسم..أبحث عمن يقبل بتوقيع ورقة إخلاء الطرف..أجد أحدهم جالسا بلا عمل..يقبل التوقيع لي..
اعود..أبتسم..اظل جالسا حتى انتهاء اليوم..
أعود في اليوم التالي..لكي أتسلم ورقة حقيرة نهائية..
هذه الورقة لمديرية الصحة التي ستبعثني لإدارة أبو حماد..
أبتسم..
لاشيء هناك يضاهي سعادة كتلك..