مشتول السوق..وحدة الصحافة..9

مشتول السوق..
وحدة الصحافة..
1 – 11 – 2009  -  11:30 صباحا..
ياللهول..!!
كل هذه الفوضى العارمة في المكان الذي اختاروه للتمركز..بعد النداء على الأهالي في مكبرات الصوت في الجامع الكبير في القرية..
كنا قد انتقلنا للمرحلة الثانية بعد المدارس..وهي التمركز في جامع أو مركز شباب..(وربما بيت العمدة مثلا لو أردت بعض المغالاة) وانتظار الأهالي الذين لم يرسلوا أبناءهم للمدارس..أو أنهم مازالوا قبل سن الدخول ولم يدخلوهم حضانات..
طبعا أن تنظم كل هذه الفوضى..كل تلك الغوغاء..والجماهير الغفيرة التي تطالب بتطعيم أولادها في سابقة لم أرها من قبل..
كل ذبك يندرج تحت نطاق المستحيل..
لكن لا بأس من المحاولة..
*-*-*

"ونودي في الجوامع والحوانيت والمساكن أن ياعباد الله..هلموا لتطعيم أبنائكم من المرض..يبرئكم من شره بإذن المولى..ويراجعكم في ذلك الطبيب المداوي..وفريق التومرجية المصحوبون له..فاجتمع إليه في الساحة الكبرى خلق كثيرون..وداس البعض فوق الرقاب لأجل الحصول على الوصفة المنيعة.."

من كتاب "طرائف الأخبار..وعجائب الآثار" للمقريزي..
هذا لو كان يعمل طبيب أول في وحدة صحية..
وأرسلوه في حملة للتطعيم ضد الحصبة..

*-*-*

كان الأمهات يتدافعن من أجل تطعيم أولادهن..
لم يكن ذلك الشق الأسوأ..
هناك أطفال لاتدري من أين يأتون..ينزلقون من بين فرجات السيقان وتجدهم يحملون إخوتهم الأصغر منهم ليأخذو التطعيم بدورهم..
كنت مذهولا للحقيقة..توقعت أن يكون الاقبال ضعيف..
عادة القوم هنا الشك فيما تقدمه لهم "الحكومة"..غالبا هو شيء غامض كريه..سيزيد من فقرهم..ومرضهم..
حتى لو كان مجانيا..
فهناك نظرية المؤامرة..
طبعا..هم لديهم الحق في كل شيء ياتي عبر حكومة كهذه..لكن لكل شيء حدود ما..
كنت قد وصلت متأخرا بعض الشيء..وسألت عن موقع الحملة بالظبط..
حين وصلت..وجدت لمة كبرى..توقعت أنها خناقة كبيرة أو شيء من هذا القبيل..
ثم هبطت الإجابة عندما رأيتهم هناك..الممرضات..في المنتصف تماما..خلف بوابة حديدة ضيقة..ومن حولهن النساء اللواتي يحملن أطفالهن..
كتل متدثرة في جلاليب سوداء وأخرى ملونة..ملتحمة ببعضها البعض..مما يشكل تهديدا حقيقيا لي إذا حاولت التدخل..
هؤلاء لايمتلكن أي نوع من أنواع التنظيم..لايبدو أنهن سمعن يوما عن كلمة نظام من الأساس..

تلك تحاول أن تحشر نفسها وابنتها بين الباب وبين الممرضات اللاتي يناولهن التطعيم..وتلك تدفع بابنتها فوق الزحام..
تلك تحاول أن تجذب الأخرى من مكانها..وتلك تتشاجر مع أخرى للأولوية..
دعك من كل هذا..
الممرضات/الحكيمات كن يصرخن بعصبية..ويتعاملن بعنف مع الأهالي..ويهددن دوما بالثبور..دون أن يثني ذلك من عزم الأخريات شيئا..
طبعا أشاهد كل ذك لأحاول أن أستوعب الموقف..
ثم أقرر التدخل..
*-*-*

"وأتى الطبيب بما لم يأت به الآخرون..
فمنع التطعيم حتى ينظم الصفوف..وصرخ في الناس ليرهبهم..ثم شد الرقاب إلى بعضها البعض..فانتظم الناس كحبات العقد..ومنع المتسللين من الفرجات..وشيد القصور..وشق الترع..ورفع الآذان..إلخ..
واختلف الناس في تسميته..فالبعض لقبه بالقاهر..ولقبه آخرون بالظافر..ولقبه الآخرون بألقاب مشينة..
واستمر الأمر بيده..يجمع هؤلاء..وينهي هؤلاء..
حتى انتهت الناس جميعا عنه..وانتهى عنهم.."
المقريزي أيضا..لو كان لايزال مستمرا في الحملة السابقة..
*-*-*

نيل أرمسترونج..كان أول بشري يهبط على سطح القمر..
العرب هم من اخترعوا الفهرسة..
ماري كوري اكتشفت الراديوم..
اسحق نيوتن اكتشف الجاذبية..
وأحد صلاح الدين..الشاب المصري المثقف..
الطبيب الذي يبحث عن ذاته في أدغال القرى الريفية..كان أول من أدخل النظام..والصف الواقف المرتب إلى هذه القرية ومن جاورها..
أفكر في تخليد هذا الأمر في صورة نحت على جدار الساحة المجاورة للجامع..
لولا أن صورة الفريق المصاحب لم كن بالأناقة المطلوبة..
يا ألله..
أي نصر عظيم هذا ياصديقي..
*-*-*

انتهت القصة في نصف ساعة..
المرضة التي تجلس بجواري ذاهلة لما أنجزناه بعدما نظمت بنفسي طابورا طويلا للسيدات..وكانت تتصور أنها لن تنتهي إلا بعد أذان الظهر..كما هي العادة..
انتهت كل التطعيمات..وجلسنا خاليين..
أشعر ببعض السعادة..
ربما أحدث وجودي اليوم فرقا..
ربما لأنني لجأت لأساليب إدارية بسيطة..منطقية..عقلانية..لم يدر بخلد أحدهم أن يفكر فيها سابقا..
ربما لأنه أنعم الله علي بنعمة العقل..وملكة الاحساس بالجمال ونبذ القبح..
أفكر أنه يفصلني عن هؤلاء سنين طويلة من العلم والمنطق..
وأنه تفصلنا -سويا- قرونا..
عن أقرب حضارة لنا..