مشتول السوق..وحدة الصحافة..6

مشتول السوق..
وحدة الصحافة..
27 – 10 – 2009  -  12:30 ظهرا..
والحضانات أيضا..
التعليمات تخص الحضانات أيضا..
هكذا..نصل لشقة في الدور الأرضي..نطرق الباب..
نجيب على السائل:
حملة التطعيم..من الوحدة..
فتفتح لنا الأبواب..
*-*-*
شقة في الطابق الأرضي..ذات غرفتين..وردهة ضيقة..يتراكم فيها الأطفال على كل جانب..
الشقة من الخارج رسمت عليها بعض الرسومات برداءة منقطعة النظير..
هناك ميكي..أو بطوط..شيء من هذا القبيل..لكن كأنما ألقى عليه أحدهم دلوا من الماء ليسيح بهذا الشكل المخزي..
عهدي السعيد بالطفولة..بعيد للغاية عني الآن..حتى لو أتى..فلن يأتي في ظل ظروف كهذه..
أدخل إحدى الغرفتين..
مقاعد خشبية "دكك" تتسع بصعوبة لثلاثة أطفال يعانون من الهزال..
شيء ضامر يجاور شيئا آخر بجوار شيء آخر..
حسبت عدد المقاعد التي كانت تستخدم في التعذيب قديما..ثم أتوا بها هنا كنوع من التعذيب المهذب..تسعة..
تسعة مقاعد طولها حوالي متر..وعرضها ثلاثون سنتيمترا..تتراص في صفين..خلف بعضها..فوق كل منها يجلس ثلاث أطفال..
حسنا..العدد في غرفة طولها وعرضها ثلاثة أمتار..يقترب من الثلاثين..!!
إذن..كيف يأخذ هؤلاء البؤساء أنفاسهم..
دعك من العدوى الآن ياصديقي..
هذا المكان مزدحم لدرجة أن الميكروبات لاتجد طريقا إلى هنا إلا بصوبة بالغة..
أمام كل هؤلاء البؤساء كانت تقعي مدرسي أكثر بؤسا..تشرح بعض الأشياء..
لابأس..
لنقم بالتركيز في عملنا بعض الشيء..
*-*-*
حين أبديت ملحوظة على العدد من جانبي..نوع من أنواع تأدية الواجب..
قالت مديرة المكان مستنكرة كلماتي: أنت لم تر الحضانة الأخرى..هي أشد تكدسا من هنا بكثير..!!
اللعنة..
كيف يتوالد هؤلاء الناس بكل هذه الأعداد..
أسير في طرقة مظلمة..أحاول تذكر طريق الخروج وسط المتاهة التي علقت فيها..
أصل لرسمة والت ديزني الشبية بالكابوس على الحائط..
وأنتظر خروج بالقي الفريق عليهم لعنة الله..
*-*-*
الحضانة الأخرى كانت أشد بؤسا..
كانت مغارة بالمعنى الحرفي للكلمة..
في الطابق الأرضي أيضا..مدخل ضيق..ظلام خانق يلف المكان كله..
قالوا لي أن انقطاع التيار هو السبب..
الحقيقة أن عدد الأطفال كان أكبر في هذه المرة..السيدة لأخرى كانت على حق..
لم تكن هناك رسومات على الحوائط..بل انتشرت بعض الآيات المعلقة في براويز على الحائط في عدة أماكن..
صاحب الحضانة هو شيخ أزهري..
ربما لهذا السبب لم توجد رسومات أو صور..ربما لهذا السبب كان تكدس الأطفال أكثر..
ربما لهذا السبب أو لأي سبب آخر رفض التطعيم –حين اتصلوا به هاتفيا- خوفا من مضاعفات قد تصيب أحد الأطفال ويتحملها هو..
لكنه في النهاية وافق..
ببعض التهديد..والوعيد..والترغيب قليلا..والمعرفة..
وافق..لتبدأ فرقة القتلة ممارسة عملها..
*-*-*
أقف بجوار مدخل الباب الضيق..
أراقب العملية التي تسري على أكمل وجه..
مرة أخرى أتذكر مزرعة الدواجن..
في صغري..كنت أذهب لتلك المزرعة التي يمتلكها والدي..
أدلف للداخل..وأرى أحد العمال يمارس عمله..
أراه وهو يقوم بتطعيم الأفرخ الصغيرة..يسير وسط أعدادها الكبيرة..يلتقط أحدها..يعطيه غزة سريعة من المحقن..ثم يلقيه بلا مبالاة..ويلتقط غيره ليكمل مابدأه..ثم غيره وغيره..
لم أكن أدرك أنني حين أكبر سأعمل في حقل الحيوانات الداجنة أنا الآخر..
أفيق من الذكرى..يقترب أحد الأطفال من صفيحة مفتوحة ممتلئة بالمياه..صفيحة جبن قديمة..تصورت أنهم يملأونها ليلقوا منها فوق التراب الجاثم أمام المنزل الذي تقع فيه الحضانة..
سلوك عادي تماما لمواطنين بؤساء يتعلق التراب بكل تفاصيل حياتهم..
..يعوم فوق سطح الصفيحة وعاء بلاستيكي.."كوز"..
أتوجس خيفة مما سيفعله..لا أكاد أصدقه..لكنه يمد يده بالداخل..يملأ الإناء..يرفعه لفمه..ثم يعود فيلقيه بالداخل..!!
رباه..أي شيء هذا..!!
للحظة ظننت أنني لم أفق بعد من ذكرى مزرعة الدواجن..
الأفرخ الصغيرة تصنع ذات الفعل..
أقسم لك ياصديقي أنني فركت عيني لأستيقظ..لأدرك أن الذي أراه أمامي هو الحقيقة ولاشيء غير الحقيقة..
نحن لا نبتعدعن العاصمة إلا أقل من الخمسين كيلومترا بقليل..
وهذا المنظر هنا..
مابالك بالصعيد وقاطنيه..مابالك بالصحراء وقاطنيها..
يقترب طفل/فرخ آخر ويصنع المثل..
إناء للشرب..مفتوح..على الأرض..بجوار سلة المهملات..على قارعة الطريق تقريبا..يمد الأطفال أيديهم الملوثة بكل الكائنات الشيطانية اللزجة الصغيرة لداخله..
وكأنها أسطورة حية للقذارة..
أي اشمئزاز..؟!
هذه المرة كان الأمر أكبر مني..
تحدثت مع المسؤولة..لتؤكد لي أني هذا وضع مؤقت..وأن هذا لاشيء بالمقارنة بالحضانة الأخرى..وأن هذا سيتم تغييره..
وأنني جزاني الله خيرا على النصيحة..
كنت في تلك الأيام مهذبا..
أمر ندمت عليه كثيرا فيا بعد..وتحملت في سبيله الكثير..
بدون كلمة أخرى أخبرتهم –بعد كل الهراء المعتاد حول التطعيم- انني في انتظارهم في الخارج..
لم أنس بالطبع أن أخبرهم: عليكم اللعنة..
*-*-*

أي وضع ذلك الذي سيتم تغييره..؟
أي وضع في ظل أن المحفزات التي يعطونها للصبية الصغار على سبيل التشجيع هي حلوى لزجة ملتصقة ببعضها البعض..ويطلق عليها اسم "أرواح"..؟
أي تغيير ياصيقي..
أنت حسن النية فعلا..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قسم الجراحة - حوادث 3

مستشفى العباسية..العيادات الخارجية..17

مستشفى الأطفال..8