مشتول السوق..وحدة المنير..14

مشتول السوق..
وحدة المنير..
18 – 5 – 2009 – 3:30 عصرا..
قضاء الوقت -بكل هذا الفراغ المستميت- في الوحدة الصحية في فترة النوبتجية..يكون في بعض الأحيان باعثا للنفكير العميق..
مثلا..
أنت تتأمل وتتدبر في خلق الله..
أولئك الذين يأتون إلى الوحدة بأنفسهم..في وقت النوبتجية ليغرقوك في مشاكلهم وقضاياهم التي لا تثير أدنى اهتمام لك..
لن يعنيك من ياتي لك شاكيا من ألم في ساقه مستمر لفترة طويلة..
ماذا هناك..ليذهب لطبيب عظام..
ولن يعنيك من تأتي لتشتكي لك بأن ابنتها تقيء باستمرار..
لا بأس ياسيدتي..اذهبي بها لطبيب أطفال..
وبالتأكيد لن يعنيك من يأتي باحثا عن الخلاص في عملية ختان لابنه او ابنته..وهو يعدك بـ "اللي فيه النصيب"..
لا بأس..اذهب للجحيم ياسيدي أو سيدتي أيما كنت..
يأتي أحدهم..فيتفضل بأن يريني مايشكو منه..
ثم ينتهي الأمر بأن يضع في يدي "اللي فيه النصيب"..
جنيهين..ثلاثة..أو ربما يكون متسامحا..فيضع خمسة جنيهات..
يثيرون جنوني..وأكاد ألتقط أعناقهم بين فكي..وأضغط عليها مستمتعا بجحوظ عينيهم رعبا..
هؤلاء يتعاملون معي كعامل ما..يصلح لهم الأرض..أو يضع لهم السماد..أو يسلك البالوعة المختنقة بروثهم..أو يركب لهم بابا..أو يصنع لهم حظيرة تأويهم وأطفالهم..
لا يفهمون أنني طبيب..
ربما أكون مختلفا عمن قبلي..
وعمن سيأتي بعدي..
لكنهم لايفهمون..
*-*-*
أعرف أناسا من زملائي يحققون الثراء السريع بهذه الطريقة..
تشغيل الوحدة أو المركز لحسابهم الشخصي بعد انتهاء ساعات العمل الرسمية..
تلك الساعات التي تطول أو تقصر..أو تنعدم أحيانا..!!
أناس من دفعتي..في قراهم..وأناس آخرون..أكبر مني سنا..قد اعتادوا الأمر بهذه الطريقة..
وأسسوا مع النظام الفاسد علاقة شراكة وثيقة..
واعتاد الناس انفسهم هذه الطريقة لدرجة أنها أصبحت أسلوب حياة..
من أنا حتى آتي الآن..وأطالب بغير هذا..
أنا المجنون..
الذي يأتي لنوباتجيته..من مكان بعيد..
يبتعد ساعة وربع عن محل إقامته..ليجلس منتظرا "اللي فيه النصيب"..
*-*-*
طبيبة المركز التي تكبرني سنا..وتسبقني إداريا تقوم بالكشف مقابل خمسة جنيهات..وتضعها في صندوق تحسين الخدمة..التي تقوم بالصرف منه على القطن والشاش وأجور عاملين وأدوية غير موجودة بالوحدة..
حقيقة أحترمها للغاية..
لذلك..من يأتي إلي.ويتكرم بشيء ما من "اللي فيه النصيب"..أترك ذلك النصيب في درج الكتب..
لأنه –شئت أم أبيت- ليس من حقي استخدام الوحدة لكشف شخصي أبدا..
*-*-*
يدخل شخص ما..يصمم على دفع جنيها واحدا..تحاول الممرضة المصاحبة إفهامه أن الآن ليس وقت عمل رسمي..
أفكر أنا في إجابتها..
كيف هو ليس عمل رسمي..؟!
ألا أتقاضى عنه مقابلا –ولو كان ضئيلا- من الدولة..
أليس هذا المكان بأجهزته وأدواته والعاملين فيه تبعا للدولة..
افكر في منظومة الفساد التي جازها وزير الصحة..والتي جعلت من حق الطبيب استخدام المركز الصحي في كشوف خاصة..وتدمير العلاقة الانسانية..بين الطبيب والمريض..
تحويل الطبيب لرجل أعمال..كل همه إنهاء وقت العمل الرسمي..ليبدأ في تحصيل ثمن الكشف..
ربما تكون النية طيبة..هو ترغيب الأطباء بالبقاء في النوبتجية..
لكن..أي نية تلك في وضع المواجهة المقيت هذا..وبلا أي قانون يتظمها؟!
أتقدم أنا لأنهي الجدل الدائر..وأخبر الرجل أنني سأقوم بالكشف بدون مقابل..
ولا حتى الجنيه العقيم..
تنظر إلي المرضة كما تنظر لأي مجنون..
لكني لا آبه..
وأدخله لغرفة الكشف..
*-*-*

أحاول أن أتشبث بمبادئي..
احاول أن أضع أخلاقي التي تعلمتها -وأنا انسان قبل أن أكون طبيبا- في مواجهة كل هذا..
أحاول الانتصار للمنطق..
أحاول أن أظل كما أنا..
ولا أدري إلى متى سأستمر..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قسم الجراحة - حوادث 3

مستشفى العباسية..العيادات الخارجية..17

مستشفى الأطفال..8