مستشفى العباسية..وحدة السيدات المطورة..5

القاهرة..
مستشفى العباسية..
وحدة السيدات المطورة..
الاثنين: 12 يوليو 2010  -  11:00 صباحا..

أتفرغ للكتابة..أخرج أوراقي..وأبدأ..
عما نتحدث اليوم يا صديقي..؟
*-*-*
أذهب للقسم..أجلس..أنهي بعض النوت والمذكرات العلاجية..أكتب الأدوية المطلوبة..أراجع التحاليل..
تدخل إلي مريضة ما تسألني متى سترحل..
أتنهد..وأرد بابتسامة باهتة:
عما قريب..
تكون هذه زينب..أو فاطمة..أو عبير..أو نجلاء..أو ماري..أو ليلى..أو عيدة..أو غيرهن..
السؤال يتردد دوما..
ودوما إجابة احدة:
عما قريب..
*-*-*
هناك تلك المريضة المسنة..فاطمة..تجاوزت الستين تقريبا..
لها رأس صغير..صلعاء إلا من بعض شعيرات باقية..وأذنين كبيرتين..إحداهما بهما قطع كبير في شحمة الأذن..
لها اليسرى فارغ من العين..وتعاني من نوبات صرعية متعددة..وتأخر عقلي..
منظرها مرعب..ومثير للشفقة..
كنت في البداية لا أستطيع التحديق إليها طويلا..
ثم تملكني الشعور الجارف ببؤس هذه السيدة..
تدخل مكتبي كل يوم صباحا مطالبة إياي بربع جنيه..لتشرب به الشاي..
أناولها الربع جنيه بدون مقاومة..تنظر إليه..ثم تمضي..
لا أعرف ماذا تفعل بكل هذه الأرباع..
ماري في نفس القسم..تجاوزت الخمسين..حولاء..قصيرة القامة..فمها خالي من الأسنان إلا من واحدة هنا أو هناك..عرجاء قليلا..أيضا ذات علة في ذكائها..
تناديني دوما بـ "حبيبي"..تلقي علي التحية صباحا: "ازيك يا حبيبي.."..أطلب منها شيئا فتضحك..وتقول: "حاضر يا حبيبي.." تسألني بشكل متكرر عن زواجي..فأخبرها بالنفي..فتسير مبتعدة وتقول: "ماشي.."
نجلاء..كانت أصغر سنا قليلا..أربعينية..أكثر وعيا..عينيها بلون أخضر فاتح..ذات مزاج رائق..تغني..تضحك..لذا تشارك في أنشطة المسرح هنا بشكل مستمر..
ليلى..كانت في أرذل العمر..سبعينية وربما أكثر..هيكل متهالك..راقدة على سريرها..عندما قرأت حالتها عرفت أنها تلقت عدوى فيروسية قديمة في المخ "ENCEPHALITIS"..تركتها طريحة الفراش..
المفترض أن تكون هذه في قسم الباطنة..لكن..لا بأس..من قال أن كل شيء يسير في مساره الطبيعي..؟
طريحة الفراش.تطعمها الممرضات وتحممها وتقوم بتغيير ملابسها..
دون أي أمل أن تبرأ من مرضها يوما..
فمن قال أن الرحمة زالت من قلوب الناس..؟
*-*-*

أنا أكره المرض..
وأكره ما يفعله في الآدميين..
يوما ما في مناقشة مع والدي رحمه الله..كانت مناقشة حول لو ترك لنا الخيار..أن نموت فقراء..أم نموت مرضى..
اخترت الفقر..
واختار والدي المرض..
يوم توفي أبي بين يدي..كان غائبا عن الوعي..بعد سنة كاملة قضاها في غياهب الفشل الكبدي..
اخترت الفقر..لأني كنت أدعو الله يوما أن أموت بكامل عقلي..بدون "بهدلة"..
هنا..يوميا أنظر لهؤلاء البائسات..
وأحيانا أسأل نفسي..لم خلق الله المرض..لم خلق الله هذا العذاب..
وأحيانا كثيرة لا أجد إجابة شافية..
لا أنكر أبدا رحمة الله..وإيماني بما كتبه..
لكنه الإحباط الذي يقتلني هنا يا صديقي..
عسى أن يهديني الله لإجابة يوما..


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قسم الجراحة - حوادث 3

مستشفى العباسية..العيادات الخارجية..17

مستشفى الأطفال..8