مستشفى العباسية..البداية..1

مستشفى العباسية..
وسط المستشفى..
17 – 3 – 2010  -  10:30 صباحا..
ربما لن أذكر تاريخ مولدي..مثل تاريخ هذا اليوم..
الخطوات الأولى الحقيقية لي على أرض مستشفى العباسية للصحة النفسية..
أحمل في حقيبتي ورقة استلام النيابة..
وأحمل في يدي زجاجة ماء..
وأحمل في قلبي سعادة لا توصف..
*-*-*

أعبر البوابة الحديدية..بعد ما مررت بحديقة جانبية منمقة..
أرمق اسم المستشفى الذي كتب على لوحة رخامية بخط الرقعة..
أمشي عبر شارع طويل..
على جانبي هناك جدار مرتفع..ذو لون أقرب للأخضر الفاتح..درجة غريبة جدا..أتعجب منها..
هناك تلك النقوش الجدارية البارزة..ذات لون الأبيض..
قبل أن آتي للمستشفى كنت أعتقد كما كثيرين أن مستشفى الخانكة هي مستشفى العباسية..
لذلك جلست طويلا إلى الكمبيوتر لأستخرج كل المعلومات الممكنة عن المستشفى..وحينها أدركت الحقيقة أنهما غير بعضهما البعض..
كان هناك موقع صغير بدائي للأمانة العامة للصحة النفسية..فيه بعض المعلومات عن كلا المستشفيتن..
التهمتها كلها..
لذلك قبل أن آتي لهنا كنت قد أدركت بعض الحقائق..
لكنها لم تكن أبدا الحقائق كاملة..
*-*-*

أرمق تلك البروزات الجبسية البيضاء..والعواميد التي تفضل الجدار المرتفع..
كنت أتصور من قراءتي أن تلك هي ذات النقوش التي بنيت بها المستشفى سابقا في العهد الخديوي..
لكنني كنت مخطئا..
"فيما بعد..بعد عدة سنوات سأعرف أنهم ارتكبوا جريمة شنعاء بحق هذه المستشفى..حين قاموا بتجديدها بالكامل تقريبا..وأخفوا المعالم القديمة كلها..غباء لا يوصف.."

تعجبت من لونها الأبيض الحديث نسبيا..والذي لم يتوافق كثيرا مع اللون الفاقع المجاور لها..وما يشبه الحليات القديمة التي توجد على السور..بما يشبه إطارا للوحات لم ترسم..
كان هناك مبنى صغير..ملونا بذات اللون..ممتد على جانبي الأيسر..ثم حديقة صغيرة..ومبنى آخر ذي دورين..بسقف مائل..وبرج صغير..مبنى على الطراز الانجليزي القديم..ثم حديقة أخرى أكبر..
انتهى السور على جانبي الأيمن..وظهرت حديقة أخرى أكبر وأكبر..
هناك جذوع أشجار كبيرة ساقطة على جانبها..القطع في قطرها لا يقل عن متر وربما أكثر....!!
رباه..
ما هذا الاتساع الهائل لهذا المكان..؟
هكذا تكون الحياة السعيدة حقا..!!
*-*-*

حدائق صغيرة..وحدائق أكبر..تتخللها عدة مبان مختلفة الشكل..وإن اتحد معظمها في اللون الفاقع الغريب..
أرمق المسجد الصغير..
ومن ثم المباني الملتصقة به..مدرسة فنية للتمريض..للفتيان..ثم مبنين يفصل بينهما حديقة صغيرة..وبوابة حديدية قصيرة..يقابلها في الجهة الأخرى الحديقة الأكبر..
ينتهي كل ذلك بعد أن أصل للمبنيين الكبيرين المتقابلين..
بالتأكيد ذي طراز حديث..لم يكن هذا الارتفاع مسموحا به في الزمن الماضي..برغم التصميم الذي استوحى الشكل القديم..وشكلهما هما ذاتهما باللون الترابي الكالح..المختلف عن اللون الفاقع الغريب..
هناك مصطبة هائلة..أو سقف هائل لا أدري الوصف الدقيق..يرتفع فوق المدخل لكلا المبنيين..
وممر منزلق صاعد وهابط..
لا بأس..شيء لطيف..لكنني لم أرتح كثيرا لهذا الارتفاع الذي يشوه المنظر المنبسط للمستشفى..
*-*-*

هناك..بشكل رائع الجمال..حديقة دائرية مقسمة لمثلثات..تلتقي في دائرة في المنتصف..
ثم مبنى على شكل نصف دائرة يحتوي الحديقة بين ذراعيه..
هذا التنسيق رائع فعلا..
هذه مستشفى رائعة الجمال..
الشارع الطويل الممتد..ثم دائرة..ثم مبنى نصف دائري من دورين..
يبدو شكله على الطراز القديم هو الآخر..بذات اللون الترابي الكالح..
هناك ميل ما عند المبنى العالي على اليسار..قد يخرب الشكل العام للصورة المتماثلة على جانبي الشارع..
لكن..لا بأس..
ها قد وصلنا للمحطة الأولى..
أرفع رأسي وأرمق اللافتة المعلقة..
الأمانة العامة للصحة النفسية..
أقول لنفسي مرحبا بك..
ثم أدخل..
*-*-*

هل هي سعادتي..أم هو أمر مختلف هنا في القاهرة في هذا المكان..؟
لا أدري..
كل ما أعرفه أن أوراقي انتهت بسرعة بالغة..وتسلمت خطاب استلامي بالمستشفى..
أخبروني بالتوجه لمدير المستشفى لإتمام الاستلام..
بضع خطوات..ثم أكون في مكتب مدير المستشفى..
كان المدير في ذلك الوقت هي د.منال العطار..
*-*-*

بعد تأشيرة لشؤون العاملين..باستلام أوراقي..
وهناك..جلست أملأ ست نسخ من ورقة واحدة..اقرار استلام العمل..
اسمي..ومؤهلاتي..وتكليفي..وعنواني..وتليفوني..وأي شيء آخر يصلح هنا..
لم تكن هناك فرصة لأن أقوم بتصوير أي ورقة من هذه الأوراق..
لكنها بالتأكيد حفظت في ملفي..سأعود إليها فيما بعد..
ثم اتبعت التعليمات..
نسخة للماهيات..ونسخة للدفتر الخاص بالحضور والانصراف..ثم نسخة أخرى للأجازات..
نسخ لكل مكان سأكون متواجدا فيه في الفترة القادمة..
وكأني أكتب لنفسي حياة جديدة..
صفحة بيضاء ناصعة..
سأشكلها كما أريد..
*-*-*

أثق أن هذا المكان لن يكون الجنة..
أثق أنه سيكون هناك الكثير من الألم..
الكثير من الإحباط..
لكنني تحملت كل ما سبق في سبيل الوصول لهنا..
وأنا سأصنع المستحيل لتكون هذه الجنة التي أريد..
يارب لك ألف حمد ووألف شكر وألف منة..
يارب أعني لما أريد..