مشتول السوق..وحدة الصحافة..16

مشتول السوق..
وحدة الصحافة..
13 – 12 – 2009  -  12:00 ظهرا..
استلمت خطابا حين وصولي للوحدة..
خير اللهم اجعله خيرا..
أنا لا أستلم أبدا شيئا إلا وكان الشيطان الصغير القابع فوق المدخل قد أمهره بخاتمه..
خطابا مليئا بالشرور..
لكنه ويا للمفاجاة..كان خطابا عاديا..من المعهد الديني المجاور لنا..يطلب فيه أن يقوم الطبيب بالوحدة بإلقاء محاضرة خاصة بمرض انفلونزا الطيور/الخنازير..لتوعية التلاميذ الصغار بهذا المرض، والوقاية منه..

شيء لطيف حقا..
أنا سأقف خلف منصة..أو أمام منصة..أو فوق منصة..وهناك الجماهير الغفيرة..وألقي خطابا مفعما بالحماس والحيوية..
ستنطلق آهات الاعجاب..وسيسقط الطلبة انبهارا..ثم تنطلق المظاهرات الحاشدة هتافا بحياتي..وحينها أتلقى رصاصة غادرة..
أموت شهيدا..ويطلقون اسمي على الوحدة الصحية..ويصنعون مثالا متوسط الحجم من الطين..ويضعونه على حافة الترعة حيث يستفيدون منه في ربط البهائم فيما بعد..
لا بأس..لا بأس على الإطلاق..
على الأقل..سأقوم بشيء ذي جدوى..
أنا أفضل هكذا أعمال..بديلا عن عمل حلاق/كاتب الصحة الذي أمارسه حاليا..
*-*-*

أذهب للمدرسة..يستقبلني مدرس طيب القلب..
"غلبان"..
يتعامل معي بحفاوة مبالغة..لا أستحقها حقا..
لدرجة أنني فكرت: لو كنت وزير الصحة، لما اختلفت المعاملة أبدا..

اتجه بي لأحد الفصول الدراسية..
حسنا..لم أكن أتوقع هذا..كنت أظن أنني سأكون في قاعة محاضرات..أو أنشطة مثلا..يجمعون لي الطلبة كلهم..أو أكثرهم..ربما حتى نكون في الساحة الواسعة..
لا بأس..لنر أين سنذهب يا صديقي..
*-*-*

أول ما دخلت الفصل..وقف التلاميذ..أنشدوا قصيدة صغيرة من قبيل "شرفتنا..وأهلا وسهلا بيننا..إلخ.."

يا للعظمة..يا للجمال..يا للهول..!!
ياه..منذ عشرين عاما تقريبا..كنت هناك..في فصل دراسي كهذا..وكنت أقف تحية للمعلم أو لمدير المدرسة..أو لأي شخص ذي حيثية..
"اللي كنا بنعمله في الناس بيطلع علينا دلوقت..!!"
جلس التلاميذ الصغار يحدقون في..منتظرين ما سأقول..
في أوقات عديدة..عندما أجد نفسي وسط الناس..أو مسلطا علي الأعين من حولي..أشعر بالقلق..يسيل العرق أحيانا على وجهي..وتبدأ الحركة الزائدة..مع بعض اللعثمة..حتى أتمالك نفسي يعد قليل..

في هذه المرة لم يحدث شيء من هذا..كنت اقف مبتسما للتلاميذ الصغار..وهم منتظرين أن أبدأ حديثي إليهم..
"فيما بعد..ستكون هذه من أهم تجارب حياتي للتغلب على مسألة الرهاب الاجتماعي هذه..ومسألة الانغلاق على الذات.."

طفقت أتحدث..وأتحدث..
أسألهم..أرسم بالطبشور على السبورة..الطبشور الذي كان مصدر سعادة لي وأنا صغير..
انطلاق..وراحة نفسية..
وسعادة..!!
لم يماثل هذا اليوم أي يوم آخر منذ جئت إلى هذا الجحيم..
ولن يماثله أيام أخرى إلى يوم إخلائي من هنا..
رسالة صغيرة من الله..من الرحمن الرحيم ليرأف بحالي..
ربما يكون هؤلاء الأطفال..ربما هي براءتهم..ربما هي أسئلتهم اللطيفة..وأعينهم المتسعة..
برغم كل التشوهات الذي ستعيث بهم فسادا..
كنت أود أن أظل هنا..كنت أود أن أظل أرد على أسئلتهم..
لكن الممرضة المصاحبة لي جذبتني من كم الجاكت الذي أرتديه بحركة حاولت أن تكون لطيفة بقدر الامكان..منبئة إياي بفوات الوقت المحدد..وأنها لديها أشغال أخرى بالوحدة..
كنت أود أن أقول لها فلتذهبي للوحدة أو لبيتك أو للجحيم..
لا فارق..اتركيني هنا بعض الشيء..
لكن المدرس هو الاخر طلب من التلاميذ أن يلقوا السلام علي..والتحية..للمجهود العظيم الذي بذلته..
حسنا..
ودعتهم..وتمنيت لهم حياة سعيدة..
*-*-*

كاد اليوم يمر بسلام..وكادت التجربة أن لا ترك أثرا سيئا على الاطلاق..وتظل مغلفة بتلك الهالة الرائعة من السعادة..
لولا أن مد إلي المدرس "الغلبان" يده بعشرين جنيها..
نظرة متسائلة مني..فأوضحت الممرضة أن ذلك المقابل الرسمي للمحاضرة التي ألقيتها..
والله العظيم..؟!

كنت مستعدا أن أظل هناك النهار بطوله..
كنت مستعدا أن أطوف بكل الفصول..وأشرح للتلاميذ احدا واحدا جدوى مانفعله..أو لاجدواه..أحذرهم من مغبة تضييع أوقاتهم في شيء لا فائدة منه..في دعوتهم لحب الخير والحق..ولتذوق جمال الأشياء..
كنت مستعدا لكل شيء..إلا أنني أقبل هذه المهانة..
لكن لا بأس..هناك الكثير من هذا..هم مصممون على افساد الأمور الجميلة كلها..
كنت أود أن أتركها له..كنت أود أن أقول له دعها للأطفال..احضر لهم بعض الحلوى..جزاء براءتهم..وجمالهم..
لكنني كنت أكثر جبنا وخجلا وغباء..
أخذها في صمت..
ثم أعود للوحدة..
*-*-*

أجلس على الكرسي..خلف المكتب الكبير..أنظر عبر زجاج الشرفة الواسعة للأراضي الخضراء البعيدة..
أحاول ان أتذكر وجوه الأطفال..فقط لأظل أشعر بالسعادة..
 أحاول أن أتنبأ بمصير لهم في عالم غير عالمنا..
مصير رائع يمتليء سعادة..
أبتسم..
هذه من المرات القليلة التي أفعل فيها ذلك الفعل المجرم هنا..
أتمنى لهم حياة هانئة..وأبتسم..
حتى أنني لم أعد أرى أي أحد قبيح آخر..

ولا حى ذلك الشيطان اللعين القابع أمامي دوما..