مشتول السوق..وحدة المنير..8

مشتول السوق..
الإدارة الصحية..
8 – 5 – 2009  -  3:00 عصرا..
حينما رن جرس الهاتف..لم أتوقع هذا أبدا..
في البداية..لم أفهم..
ثم بعض الوقت..وحين فهمت..لم أعد أشعر بأي شيء آخر إلا الذعر..!!
*-*-*
شخص ما..عرف نفسه بأنه فلان الفلاني من مركز الشرطة..
-نعم..؟
-عايزين الدكتور هنا شوية..
-نعم..؟؟
فيه حالة مسجون عنده مشكلة..وعايزينه يكشف عليه..
-نعم..؟؟؟
كنت أشعر بالذعر..
لا من الشرطة..والوضع الغامض الذي يحيط بها..بل من هذا الموقف ذاته..
"في تلك الأيام..لم أدخل قسم البوليس أبدا إلا من أجل استخراج البطاقة الانتخابية..وتعديل المقر الانتخابي..فقط لا غير..
أيام سعيدة حقا.."
حاولت التنصل بأي شكل..
من انا لأولى مسؤولية مثل تلك..؟!
قلت أنني لوحدي هنا..وأنه ليس لدي أدوات للكشف الطبي أصلا..ثم أنا لا أعرف هذا المركز اللعين أين يقع..
لكنه –ذلك الوغد- قال أن المسألة لن تأخذ وقتا..وأن نظرة واحدة من سيادتك "يقصدني أنا" تكفي..وأنه سيبعث أحدا ليأخذني..!!
حاولت تخيل الموقف..
سيارة شرطة تقلني في صندوقها الخلفي كمجرم مشبوه..
كأن هذا ماينقصني في هذه البلدة اللعينة..
رباه..
أين المفر..!!
*-*-*
لم تمض دقائق معدودة..حتى كان هناك اثنان بالأسفل..
أمين شرطة..من أولئك الذين تجدهم في كل مكان..بملابسه الرسمية..بملامحه الغليظة السمراء..وشارب ضخم..ونظارة شمسية رخيصة..
ومخبر..ولم يكن يرتدي زي المخبرين المعتمد لدى الهيئة..والذي هو جلباب ومعطف أصفر وكوفية..
كان يرتدي شيئا شعبيا رخيصا..بنطلونا من الجينز..وقميص..وجاكت جلدي..ووجهه الذي لايخلو من نظرة بغيضة..
صورة نمطية للغاية لم تخل من الابتذال لمجرم سابق..تاب عليه صاحب الداخلية..وقاموا بتأهيله ليعمل بها..
الحمد لله..لم تكن توقعاتي بهذا السوء..
*-*-*
قلت لنفسي..تماسك..
أنت الأفضل..
هم لاشيء حقا..يحتمون بمهابة زائفة..ويمثلون كل ماتكره..
قوة غاشمة ظالمة في أغلبها..
لذلك أنت الطبيب..انت الأفضل..
قلت لنفسي في سخرية: المهم أن تحمي مؤخرة عنقك..!!
*-*-*
لم يكن معهما سيارة..وأراداني أن أستقل معهما "توك توك"..
في بساطة..اتجهت سيارتي..واستقليتها..وطلبت منهما الركوب..
لم يفتني المشهد الغريب..
المخبر يفتح الباب الأمامي لسيادة الأمين..
ابتسمت..وأزال المشهد جزءا كبيرا من توتري..
عقد نقص واضحة التجلي..
*-*-*
طوال الطريق الذي لم يستغرق كثيرا..وأنا استمع لإرشادات السيد الأمين لطريق القسم..
كنت أفكر فيما سأراه..
في كل ما قرأت عنه مؤخرا عن قضايا التعذيب..والسادية البالغة للسجانين لمسجونيهم..
عندما وصلنا..وعلى عتبة الباب..
وصلت في أحلام يقظتي إلى أنني أكتشف جريمة تعذيب بشعة..لمسجون بريء..في قبو سري..
ومن ثم أكشف الأمر..هنيئا لي..!!
تكتب صحف المعارضة عن الأمر..وأتعرض لمحاولات ضغط كبيرة..
ثم أقتل في النهاية على يدي السيد الأمين صاحب النظارة الشمسية الرخيصة..
انتفضت انتفاضة خفيفة..وشعرت بالغضب..
اللعنة..
لماذا تقتلونني أيها الأوغاد..؟!
*-*-*
اصطحبني السيد الأمين لرئيس المركز..
رجل متضخم..لديه نسر أو صقر على كتفيه وعدة نجوم..ولديه صوت كفيل بإيقاذ الموتى..
نهض الرجل وصافحني متفحصا إياي بنظرة أمنية شاملة..
وجهي يمر عبر العديد من أجهزة الماسحات الالكترونية..
تماسكت..وقررت أن أخفي عنهم كل جرائمي..
لن أعترف..لن أعترف..
ثم صدر صوت البراءة أخيرا..قائلا للسيد الأمين أن يصحبني..
كمن يقول لي..أنت افلت هذه المرة لأنها المرة الأولى..وفي المرة القادمة..سنجلس طويلا..ولن تكون الجلسة لمناقشة أثر جماعة أبولو في الشعر العربي بكل تأكيد..
وليصطحبني الرجل إلى حيث سأقوم بالكشف الطبي على المسجون الذي مات من شدة التعذيب..
وسيجبرونني –وهم يمتصون السجائر بشهوانية مفرطة..وابتسامة قميئة- أن أكتب في تقريري أنه توفي نتيجة "هبوط حاد في الدورة الدموية.."
ثم ينكشف الأمر بعد ذلك..ويضطرون للتخلص من الشهود..
وأصبح أنا مجرد جثة طافية على سطح تلك الترعة الكبيرة القادمة من القاهرة..
اللعنة..
لماذا تقتلونني أيها الأوغاد..؟!!
*-*-*
فتح السيد الأمين بابا إثر باب..حتى وصلت في النهاية لممر يهبط قليلا..في نهايته تقبع غرفة الحجز..
هناك رائحة طلاء حديثة للممر..طلاء أصفر باهت..بشريط أبيض عند القاعدة..
فتح الرجل باب غرفة..حيث تجرى بروفات التعذيب..
أخيرا سأرى محاكم التفتيش رؤيا العين..!!
*-*-*
العتمة كانت مسيطرة..والجو خانق مكتوم..
بصيص من الضوء يلوح من نافذة ضيقة لم تصنع الكثير..يبدو أنه تطل على فناء خلفي أو شيء من هذا القبيل..
لمحت مايقرب من الثمانية محتجزين..وبطاطين مفروشة للأرضية..وحبال في منتصف الزنزانة –حبال في الزنزانة..؟؟!!.- معلق عليها ملابس..
بالكاد توقفت مكاني في الغرفة الضيقة عندما تعثرت في جسد يرقد على الأرض..
كان هذا هو المريض..!!
تطوع أحدهم ليجلس بجواري ويحاول أن يشرح لي الوضع..
حاول بقدر الامكان أن يكون تشخيصي دقيقا..
"أنت تمزح ياصديقي..أليس كذلك..؟"
أتحسس بطن الرجل..في النور الخافت..وأسأله الأسئلة التي تبقت في ذاكرتي من أيام الامتياز..
مغص..مغص كلوي..مرارة..زائدة دودية..انسداد معوي..
حتى إنني سالته –وصدق ذلك أو لا تصدقه- عما إذا كان قد تعرض للضرب..
ثم قدرت إجابته النافية..وعدلت السؤال..إلى هل أصبت بخبطة قوية فيها..
في النهاية..وبمعلوماتي المتواضعة وصلت إلى لاشيء..
ربما هو اشتباه في مغص كلوي على الأرجح..أو مغص عادي..
طبعا في حالة كهذه قد نطلب أمورا اضافية..لكن ياصديقي..
لما كنت في استقبال مستشفى الجامعة كنت تتجاهل كل شيء..وتكتب ما تمليه عليك نظرتك الثاقبة..
افلا تفعل هذا هنا..
اكتب ماتمليه عليك ياصديقي..
ودعك من علمك الذي لا ينفع..
دعوني أخرج من هنا أيها الأوغاد..!!
*-*-*
لم يكن هناك تعذيب..ولم يكن هناك ضحايا..ولم يكن هناك قتل..ولم يكن هناك إلا هم ثقيل..وخبرة قاسية أحتملها في ذاكرتي بجوار الذكريات الحزينة الأخرى..
مثل تلك الورقة التي كتبت فيها..في دفتر أحوال القسم أنني مررت بالقسم وكل شيء على مايرام..
كل شيء على مايرام ياصديقي..
كل شيء على مايرام..

"تذييل: بتاريخ وساعة نشر هذه الكلمات"
في تلك الأثناء كما ذكرت..كنت أتعامل بكثير من النقاء والطيبة المفرطة التي تصل للسذاجة القاتلة..
لا أعلم مصير المسجون..وإذا كان تشخيصي سليما أم لا..
لا أعلم إن كانت الورقة التي وقعتها كانت قانونية أم لا..
لا أعلم إن كانت قد استخدمت كروتين كما قدرت..أم أنها استخدمت كغطاء لجريمة أخرى..
لا أعلم إذا كان هناك قبو سري يحتجز فيه آخرون..وقد وقعت شهادة وفاتهم..
 لا أعلم كون الأمر لا يستحق الذكر..أم أنه من الأهمية مستقبلا بحيث أضع عليه علامة مميزة..
في النهاية:
الدروس المستفادة بعد كل هذا:
1-لا تتواجد بوبتجيتك..اعتذر عنها..إلا لو أدركت أن وجودك سيصنع فرقا ما..
2-لا تستجب لنداء الهاتف أبدا..ولا تستخدم سيارتك في مشور العمل الرسمي..
3-لا تدخل غرفة الحجز إلا لو كنت متهما..
4-تماسك دوما أمام الضباع..لا تظهر ترددك أو خشيتك أبدا..
5-لا توقع بيدك أي ورقة ولو أحضروا لك ملاكا يقول لك أنها روتينية..لن يسمعك أحد حين الجد..
6-احتفظ بكبسولة سيانيد بين أسنانك لتتناولها وقت الخطر..
7-.................................................صدقني هذه نصيحة هامة..!!
8-الأولوية دوما لمؤخرة عنقك..

ونتمنى لكم السلامة أبدا..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قسم الجراحة - حوادث 3

مستشفى العباسية..العيادات الخارجية..17

مستشفى الأطفال..8