التكليف..الإدارة..6

مشتول السوق..
مكتب الصحة..
21 – 4 – 2009   -  10:00 صباحا..
عندما وصلت المدينة/القرية..لم أكن أتوقع شيئا جديدا..
سأصعد..سأجلس في ضوء الشمس قليلا..في الشرفة..سأقرأ بعض الشيء في الكتاب بين يدي..
سألقي نظرة لا مبالية على الذين يجلسون أيضا بلا عمل فعلي..
حاولت في اليوم السابق..واليوم الذي يسبقه..والذي يسبقه..أن أتواصل مع الطبيب الذي هنا..
في غرفة جانبية ضيقة نسبية..تقع غرفة الكشف الرئيسية..
الذين يأتون غالبا..أمهات..من المدينة/القرية..بأطفال بؤساء..يلتحفون بأي شيء كما اتفق..
ربما لصرف علبة مضاد حيوي..أو أقراص للديدان..
أو أي شيء يستنفعون به من خلف الحكومة –مصاصة الدماء- مقابل الجنيه..
في ذلك الوقت..كان مابداخلي اتجاه هؤلاء أنهم مجموعات من الجهلة..لابأس من الاشفاق عليهم..
وإعطائهم مايستحقونه..مع الكثير من الاشمئزاز من الانحدار الذي وصلنا إليه..لدرجة "استخسار" الجنيه..
وقبولهم بأي شيء مقابله..
كنت أحملهم المسؤولية كاملة..
أقول كنت..
لأن بعد هذا بوقت طويل..سأجتهد لأفهم أن هؤلاء القطعان الضالة من البشر..ليسوا مسؤولين عن تردي أوضاعهم بهذا الشكل..
على الأقل..ليسوا مسؤولين بشكل أساسي في هذه الجريمة..
هناك الشريك الأكبر..الخفي..الذي يرغب في أن تظل هذه القطعان على حالها..
كنت طبيبا شابا..متحمسا..وجد نفسه في مستنقع عفن كهذا..
متأثرا بما قرأه لتوفيق الحكيم..في كتاب "مذكرات نائب في الأرياف"..
طبيب شاب ولد لأسرة ميسورة الحال..بعد كفاح مرير في بلاد الغربة..لم يتعرض لتلك الأماكن في حياته إلا لتلقي تطعيم أو ماشابه..
تجسيد عملي للفظ "ابن ناس"..
ذلك الذي سيظل ملاصقا لي لسنوات طويلة فيما بعد..
وبعيدا كل البعد عن أي مورد سياسي نقي في تلك الفترة..يفهم منه بشكل منفصل مايحدث حقا..
لا بأس ياصديقي..
سيتغير كل شيء قريبا..
*-*-*
أقول كنت أصعد إلى الأعلى..حين قابلني الموظف ذو ملامح الخطورة إياها..
قال لي بلهجة خافتة "اللعنة..مابال هذا الرجل حقا؟": دكتور..انت مش بقيت عندنا خلاص..
حاولت أن أفهم مايعنيه كالمعتاد.."بالتأكيد كان يسأل هو الآخر نفسه: مابال هذا الطبيب الأبله"..
أعاد الرجل كلماته التي نزلت علي بردا وسلاما: دكتور..اشارة نقلك جات من الإدارة خلاص..هتروح وحدة جديدة..
ولم يعطني الرجل الفرصة..لأفهم أكثر..طلب مني التوجه حالا للإدارة..لأستلم إشارة نقلي..
ظللت جامدا بضع لحظات..
قلت لنفسي لا بأس يافتى..هذا تغيير في حد ذاته..
ربما أفعل في حياتي شيئا آخر بدلا من الجلوس في الشمس..
*-*-*
في أثناء نزولي من المبنى المبني حديثا نسبيا..وعندما وصلت لمدخله..
لفت انتباهي شيء ما..لم يكن له أهمية سابقة لدي..ولا أدري لماذا توقفت أمامه حينئذٍ..
ماسورة بلاستيكية ضخمة..ماسورة صرف صحي..تمتد أفقيا بمحاذاة السلم القصير في المدخل..والذي يكمل صاعدا لأعلى..
بينما تختفي هي في الجدار المواجه..لتكمل طريقها المجهول..
قلت لنفسي أي مجنون هذا..؟! من بنى شيئا كهذا..يطلق عليه مجازا "عمارة".. في مدخلها ماسورة صرف صحي..؟!
كيف يستقيم وضعها هكذا..؟!
ماذا لو انفجرت مثلا..كيف سيكون الوضع حينها..؟!
ظللت دقائق أخيرة أتأمل هذا الوضع المزري..
ثم خرجت قاصدا سيارتي لأذهب إلى حيث الإدارة..
لم أنس بالطبع أن ألقي السلام على الرجل الحانق في الصورة المعلقة في واجهة محل التصوير..
قلت له في نفسي: اذهب عليك اللعنة..وعلى مكتب الصحة..وعلى اللإدارة..وعلى ماسورة الصرف الصحي..
سوف أفهم فيما بعد ياصديقي..
سوف أفهم أن هذا هو حال البلد بلا أي زيادة ولا نقصان..
مكتب صحة صوري..يؤدي خدمات تعبيرية..في بناية خالية من أي ذوق فني أو حس جمالي..على أرض تم تبويرها..في منطقة عشوائية..في بلدة..لا هي اضمحلت لتصبح قرية..ولا هي حُدثت لتصبح مدينة..
بناية في مدخلها ماسورة صرف صحي..
تنتظر الانفجار الذي سيغرق الكون..


تعليقات

  1. " مكتب صحة صوري..يؤدي خدمات تعبيرية..في بناية خالية من أي ذوق فني أو حس جمالي..على أرض تم تبويرها..في منطقة عشوائية..في بلدة..لا هي اضمحلت لتصبح قرية..ولا هي حُدثت لتصبح مدينة.. " .... من أروع ما قرأت حتى الآن ... عود حميد ...

    ردحذف
  2. :)
    شكرا جزيلا يامحمد..
    أهلا بيك دايما..

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قسم الجراحة - حوادث 3

مستشفى العباسية..العيادات الخارجية..17

مستشفى الأطفال..8