مشتول السوق..وحدة المنير..1

مشتول السوق..
الوحدة الصحية بقرية "المنير"..
21 – 4 – 2009  -  12:15 ظهرا..
لا بد أنني أحيا في كابوس مرة أخرى..!!
لكن لا..بالتأكيد لا..
الكوابيس مهما وصلت لمراحل الخيال المبهمة..لن تكون أبدا بهذه البشاعة..
أفق أرجوك ياصديقي..
أفق..
وانج بنفسك..!!
*-*-*
هالالويا..
هذه هي الوحدة الصحية يافتى..
شقة سكنية..في مبنى لا يختلف كثيرا عن ذلك المبنى البشع الذي يقطن فيه مكتب الصحة..
ربما يكون كثر قدما بعض الشيء..
لكنه هو..بذات بشاعته وخلوه من أي ذوق فني..بضيق شارعه..بعشوائيته..
هو بعينه بغباوته..
لكن الخبر المفرح هنا..
مسجد صغير..زاوية بمعنى أصح..في الدور الأرضي في مدخل المبنى..
هالالويا..
لقد خسرت الدنيا..وفزت بآخرتك فيما يبدو ياصديقي..
*-*-*
الصعود عملية صعبة في حياة أي انسان..
وخاصة ذلك الانسان الذي يصعد سلما في طريقه لوحدة صحية..
تظل تصعد..وتصعد..
الصعود هنا مختلف عن "الارتقاء"..الذي يأتي تصريفا كمصدر لكلمة "رقي"..
السلم الضيق الذي لايقل بشاعة عن المدخل..
ومكتب حكومي الخاص بالتأمين أو المعاشات أو الضرائب أو أي شيء لعين آخر تملكه الحكومة كأداة قمع لمواطنيها..
في الحقيقة لم أفهم معنى وجود مكانين يخصان حكومة الدولة..في عمارة سكنية في قرية كهذه..
المعتاد أن تصادر الدولة أرضا زراعية ما..في طرف البلدة..وتبني عليها مجمعا حكوميا..
هيبة الدولة تستدعي هذا..
لكنني لا أفهم حقا مامعنى هذا الأمر..
"فيما بعد.بعد ذلك كثيرا..سأفهم الحقيقة..بأن العمارة ملك لأحد رجالات الحزب الوطني..والذي يسعى جاهدا لنيل الرضا..لدرجة التضحية بشقتين سكنيتين في عمارة من أملاكه، وتحويلهما لقاعدة حكومية.."
*-*-*
الباب المفتوح عن آخره..السيدات الممتلئات اللوتي يحملن أطفالا..والسيدات الممتلئات اللواتي يرتدين الأبيض..
لا زالت هناك أميال أخرى نقطعها في هذا الكابوس بعد..
في إحدى محاولاتي للدخول بين الكتل الممتلئة..انتبهت إلي إحداهن..وسألتني عنا أريد..
لم أجد صوتا لأتحدث به..من انبهاري الشديد بالتكنولوجيا المتقدمة التي يتم بها إدارة المكان..
فاعطيتها الورقة البشعة التي في يدي..والتي تحولني إلى مستخدم جديد له الحق في التواجد هنا في هذا الصرح..
في هذه اللحظة..فتح الباب الذي على يميني..وبتأثير من خلخلة الهواء..تحركت كتل ممتلئة جديدة ترتدي السواد والبياض والألوان الفاقعة من حولي..بينما جاهدت انا لئلا أصطدم بإحداهن..أو تصطدم بي إحداهن..
وفي لمحة معينة..تقابلت عينانا..
كنت أود أن أقول أنني وجدت نورا ملائكيا يشع من الهالة التي حولها..وأنني توقفت مذهول النظرات أرمقها..وقد ارتجف قلبي..
لكنها في النهاية لم تكن سوى طبيبة عادية..محجبة..قمحية البشرة..متوسطة الطول..
وكنت مرتبطا -بشكل أو بآخر للأسف- حينها..
هذا يكفي الآن..
لأنه بتأثير من خلخلة الكتل الممتلئة..تحرك الباب بقوة ليصفعني على وجهي..
ويحجب عني الرؤية..!!
*-*-*
فتحت الباب فور انغلاقه..ودعتني للدخول معتذرة..وعلى شفتيها ابتسامة..
وهكذا..بخطوات المنتصرين الحمقى..وعلى طريق المجد..دلفت لغرفة الكشف الرئيسية..
الغرفة الضيقة التي بها سرير كشف على اليمين..ومكتب على اليسار..وباب الشرفة في الواجهة..المغلق والمحشور بملفات مكدسة من خلفه ومن أمامه..وبجواره دولاب يحوي أدوية الطواريء..
كانت هناك كتلتين ممتلئتين..إحداهن تمسك طفلها على سرير الكشف..بينما تجلس الأخرى للمكتب..
رحبت بي الطبيبة "س"..وطلبت مني الانتظار قليلا على كرسي المكتب لحين انتهائها من الكشف..
*-*-*
-"مرحبا..انا الطبيبة "س"..طبيب أول الوحدة..ومديرها..وحامي حماها.."
-"مرحبا..أنا العبد الفقير إلى الله..أرجو الدخول إلى حماك ياسيدتي.."
-"قد نلت الرضا..واستحققت الحماية.."
كنت أتخيل الحوار هكذا..
لكنني أصبت بخيبة أمل حين التفتت لي وأخبرتني إنها طبيبة الوحدة..وأنني سأكون الطبيب الثاني..ومن ينوب عنها في غيابها..وطلبت مني تحديد أيامي هنا..
للحظة..كنت أشعر بالفخر..
ربما هذه هي المرة الأولى في حياتي التي سأكون فيها مديرا –بورق رسمي- على شيء ما..
خرجنا خارج غرفة الكشف إلى بقية الشقة/الوحدة..في الردهة الضيقة التي لم تحتوي إلا على مكتب..ودكة خشبية..ولوحات مماثلة لتلك التي رأيتها سابقا في مكتب الصحة..
أشارت بيدها لغرفة جانبية..وأخبرتني أن تلك غرفة كشف النساء..وبنظرة تحذيرية طيبة أخبرتني أنني لن يكون لي علاقة بهذا الشيء..وهو أمر حمدته لها على الفور..لأني كنت لازلت بريئا..أحمل بداخلي ذكرى الجراحة والنساء العطرة من السنة السادسة بالكلية..وسنة الامتياز..
 ثم غرفة في الواجهة..وأخبرتني أن تلك غرفة التمريض..بها ثلاجة..وسريرا بيتيا لدرجة مرعبة..جعلني أتساءل عن وضعه هنا بالظبط..وطبعا بعض الكتل الممتلئات اللواتي نظرن إلي بفضول..
لم يعد المكان مزدحما..وهو أمر استغربت له بشدة..
وكأنما عصا ساحر اخفت كل الكتل ماعدا اللواتي تلبسن الأبيض منهن..
*-*-*
في نهاية الجولة أخبرتني الطبيبة "س"..أنها من البلد نفسها..وأن الجميع يأتي إليها هنا اعتبارا لأنها "بنت أبو فلان"..
وطبعا لم تنسَ أن تسألنس السؤال إياه..بعد أن عرفت أنني من الزقازيق:
"انت إيه اللي جابك هنا..؟!"
*-*-*
في طريق العودة أحاول أن أفهم نفسي أن هذا هو الواقع..
لا كابوس..لا حلم سيء..لا فكرة بشعة..لا رؤيا شنيعة..
هو واقع بائس لأقصى درجة..سأقضي فيه بعض الوقت..
صبرا ياصديقي..صبرا..
فما زلنا في البداية..!!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قسم الجراحة - حوادث 3

مستشفى العباسية..العيادات الخارجية..17

مستشفى الأطفال..8