التكليف..الإدارة..5


مكتب الصحة..
11 – 4 – 2009  -  11:30 صباحا..
أتى السيد فلان أخيرا..
السيد فلان الذي كان من المفترض أن أقابله منذ يوم الأربعاء..
ثم أتى يوم الخميس..ولم أتحرك فيه من المنزل..ويوم الجمعة..الذي شابه يوم الخميس بلا زيادة أو نقصان سوى أدائي الصلاة بالجامع المجاور للمنزل..والاستماع للهراء المعتاد من خطيبه المفوه..
ثم اليوم..الذي هو يوم عيد..
وصلت في الصباح..في العاشرة تقريبا..سلمت الرجل الورقة..وكتب هو اسمي بدفتر الحضور والانصراف..بعد هراء من نوعية.."كنت فين يادكتور.." و "كان لازم تستلم من يوم الأربعاء اللي فات.."..إلخ..
ثم توقيعي اللطيف بالحضور..
ياه..أخيرا..
لنبدا العمل إذن..
فالوطن لم يعد يحتمل أي تأخير ياصديقي..
*-*-*
عندما وصلت الساعة الحادية عشرة والنصف..وانا لم أفعل أي شيء بعد..
بدأت أشك في وجود مؤامرة ما..
في البداية..يقذفونني في هذه البقعة النائية من المحافظة..
ثم يرفضون تحويلي لأي مكان آخر قريب من منزلي..
يقولون لي أنت فداء الوطن..
ثم آتي إلى هنا..ولا أفعل شيئا سوى الجلوس في الشرفة المشمسة..
وأتبادل في بعض الأحيان بعض الحديث الودي الظريف مع السيد فلان..
السيد فلان هو ذاته السيد فلان الأول..والذي عرض علي في إحدى المرات خدماته لانهاء بطاقة التأمين الصحي..
لم أكن أفهم هذا الحوار أساسا..
عندما سألني الرجل همسا وهو يضيق عينيه في خطورة: انت طلعت بطاقة التأمين الصحي يادكتور..؟!
ضيقت عيني أنا الآخر..وهمست له: لأ..إيه البتاعة دي..؟!
تراجع الرجل في مقعده..وهز رأسه، وكأنما ينعي حماقة هؤلاء الشباب "الفاقدين"..الذين يفسدون أمور الدنيا والدين، برعونتهم وغبائهم..
بعدما مسح الرجل وجهه..ونظر إلي في تركيز..وقال بنفس الخطورة: غلط..غلط يادكتور..لازم تطلعها..
تركني الرجل قليلا لأتعذب في حيرتي..
اللعنة..أي غباء ذلك الذي فعلته..
كيف لم استخرج بطاقة التأمين هذه..
لقد ضاع مستقبلي..بالتأكيد قد ضاع..
ولابد أن الأستاذ فلان قد لمح علامات الضياع هذه المرتسمة على ملامحي..فأشار إلي بمعنى أنه لاداعي للقلق وقال: بس انت ممكن تطلعها..هتروح مستشفى المبرة..وتجيب استمارة..وصورة البطاقة..وصورة شخصية..طبعا التأمين في الزقازيق..و..
لم أكن أسمع باقي الكلمات..بمجرد أن قال الرجل مستشفى المبرة..لم أكن أنصت للمزيد..
أنا يهون علي أن أذهب للجحيم سيرا على الأقدام..ولا أذهب هناك مرة أخرى..
على الأقل..الله قد يغفر لي ذنوبي هناك..
ويبدو أنه التقط ملامحي مرة أخرى..فقال في لهجة الناصح: بس أنا صعبان عليا القرف اللي هتشوفه والله..
ثم نفسا عميقا..وأنا أنظر إليه في لهفة..وألقى القنبلة: أنا ممكن أخلصهالك..
بعد هذه الكلمات توقعت أن يكون الرجل مراوغا..
عندما أسأله عن طلباته..بالتأكيد سيقول: ياباشا مافيش..أو..خللي..أو..رضاك علينا..أو..ده واجب علينا..أو أي شيء من هذا القبيل..
لكن الرجل كان واضحا..وقاطعا: سيبلي تلاتين جنيه..وصورتك الشخصية..وصورة البطاقة..وأنا هاخلصلك كل حاجة..
فوجئت بهذه الصراحة للحقيقة..
لكني لم أخف إعجابي بها..هذا رجل واضح..يعرف طريقه جيدا..
لم يلجأ لحيل الموظفين إياها للتلاعب بي..!!
*-*-*
وفي تلك الأيام العظيمة..
لم أكن أحمل في جيبي أكثر من عشرين جنيها..شاملة مصاريف الانتقالات..
لمح الرجل ترددي..فقال سريعا: ابقى سيبهالي هنا مع مدام فلانة..في أي وقت..انت تؤمرني يادكتور..
شكرت الرجل..وعدت لجلستي التي شعرت بها قد طالت..وتمددت..
عرفت ذلك من ظل الشمس الذي وصل لقدمي..
والفراغ الذي أحيا به..والي يبدو انه لن ينتهي قريبا..
رفعت رأسي..ونهضت واقفا..بنية الرحيل..
فتقابلت عيناي مع الأستاذ فلان..الذي ابتسم ابتسامة مشجعة..قابلتها بابتسامة امتنان..
هذا رجل سينهي أوراقي المهمة..وسينقذني..
وفي مقابل ثلاثين جنيها فقط.."كانت ثمنا معقولا في ذلك الزمن..إذا عرفت أن مرتبي سيساوي ثلاثون ضعفا لهذه الثلاثين جنيها"
ياللعظمة ياصديقي..
ياللعظمة..
من النادر أن يقابل المرؤ فينا أناس طيبون في هذا الزمن..!!
"فيما بعد..ستصل بطاقة التامين الصحي الخضراء القذرة إلى محل عملي بالوحدة الصحية..وسيسلمها لي كاتب الوحدة بابتسامة سخرية..لم أفهمها في حينها..وإن فهمت المغزى منها بعد ذلك..
وفيما بعد..بعد ذلك بوقت طويل..سألقي بهذه البطاقة في عمق الدرج الأيسر لمكتبي..
وستظل هناك للأبد.."

تعليقات

  1. الظاهر انه اضحك عليك فى موضوع البطاقة يا دوك .... بس كويس جت فى 30 جنيه :) تعيش وتاخد غيرها :)

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قسم الجراحة - حوادث 3

مستشفى العباسية..العيادات الخارجية..17

مستشفى الأطفال..8