شقة منشية الصدر..حيث تموت الذكريات..ج2

الأربعاء: 11 أغسطس 2010:
كان هذا خطئا شنيعا..
حساب خاطيء للأيام..ثم أجد نفسي واقفا بيأس في موقف سيارات الأجرة بعبود..
في انتظار سيارة أجرة لا تجيء..
*-*-*
اليوم أول أيام رمضان..
أنت تذكر تلك الأيام بالطبع..
وتذكر أنني كنت أسافر عن طريق المواصلات..أو القطار لو تسنى الأمر..وكان بي صحة لأتحمل الوقوف ساعتين تقريبا..
برغم أنه كان لدي سيارة..ورثتها عن أبي..
سيارة فيات 132 خضراء اللون..
(أنا أتذكر الآن الكتاب الذي كنت أنوي كتابته..وكان عن سيارتي..وكان سيصدر بعنوان فيات 132 خضراء..كنتسأحكي فيه عن كل الأفلام التي كانت فيها هذه السيارة هي البطلة..حيثكانت عنوانا للأناقة في أواخر السعينيات..وحتى أواسط الثمانينيات..أين ذهبت هذه الأوراق..؟ لا أدري..ربما لم أكتبها أصلا قط.."
لكن هذه السيارة لم تكن تصلح للسير على الطرقات السريعة..أو السفر..هذا ما كنت أعتقده..
حسنا..ربما كنت خائفا أكثر من اللازم..
أن تتعطل بي على الطريق..ولا أجد من يساعدني..وأظل هناك حتى يوم القيامة..
*-*-*
كنت أقول أن اليوم هو أول أيام رمضان..وبالتالي يتحول الأمر لجحيم..
كل المغتربين أمثالي يودون العودة لأهاليهم.حيث يفطرون معهم أول يوم رمضان..
هذا أشبه بيوم الوقفة..وأول أيام العيد..
بالنسبة إلي..لم يكن ذلك الأمر يمثل لي أي أهمية..
ما معنى أن أفطر في بيتي أو في المستشفى أو في الشارع..؟
لكني فكرت أن أعود لوجود أمي في المنزل وحيدة..
كانت قد لمحت في يوم ما في رمضان الفائت أنها كانت تود لو أنني قمت بالإفطار معها أول يوم..
لم أفعل ذلك..وكنت قد بت في المستشفى الخاص التي أعمل بها..
لذلك..قررت أن أعود اليوم للإفطار معها..
لا أود أن تكون أمي حزينة أبدا..
لذا..أنت تراني محاصرا هنا يا صديقي..
أنظر بيأس للسيارات التي تأتي..ويصطرع عليها البشر الذين ربما لديهم أمل في الإفطار مع أهاليهم اليوم..
*-*-*
قبل أن أذهب لموقف عبود..كنت ذهبت بالطبع لموقف السيارات في السلام..الطريق المعتاد لي..
لكنني وجدت صورة أكثر سوءا..لذلك ذهبت لموقف عبود..أملا أن أجد سيارات هناك..
لكن..كان غيري أشطر..
الساعة قاربت على الرابعة..وأنا في شوارع القاهرة لما يقرب من ساعتين..
أفكر أن أعود لشقتي وأفطر هناك..وأسافر ليلا..لكن لا يطاوعني قلبي..
لا بد أن أمي تنتظرني..
ثم أتت إلي فكرة..ربما تكون أختي -التي تعيش في القاهرة- عائدة إلى الزقازيق اليوم..لتحضر الإفطار مع زوجها في بيتهما هناك..
أتصل بها..وأسألها..لتجيبني بأنها ستعود إلى الزقازيق اليوم..
أخبرها أنني أرغب بالذهاب معها..لتجيب بأنها ستنتظرني..
أغلق الخط..
وأبدأ رحلة العودة مرة أخرى لزهراء مدينة نصر..
*-*-*
أخيرا..نصل للزقازيق..
بعد طريق منهك محطم للروح قبل الجسد..ووسط ازدحام رهيب..نتمكن من الوصول أخيرا..
أنزل من السيارة..وألقي عليهم السلام..وأذهب للمنزل..
من العباسية..إلى موقف العاشر في الصلام..ثم موقف عبود في الجانب الآخر من القاهرة..ثم العودة لزهراء مدينة نصر على ضواحي مدينة نصر..ثم الطريق الدائري..ومن بعده الطريق الصحراوي..مرورا ببلبيس..وحتى الزقازيق..
رباه..
لماذا فعلت ذلك بنفسي..؟!

السبت: 14 أغسطس 2010:
اليوم الأول لي في الشقة..
حان الوقت لبدء إجراءات العيش منفردا..
والبقاء حيا..
*-*-*
أنتهي من عملي في المستشفى..ثم أذهب حيث الشقة..
أمر بطريقي في شارع الخليفة المأمون على جامعة عين شمس..ويواجهها في الجانب الآخر المدينة الجامعية..
تلك الأيام..
أرى نفسي أمر بذات الطريق بعد انتهاء يوم دراسي عقيم في كلية كبيرة واسعة..لم أعرف كيف أفهمها ولا أدرك أبعادها..ولا أتعامل معها..
كلية طب عين شمس..طالب غرير..ساذج..لا يعرف إلا طريقا واحدا..كليته..مدينته الجامعية..والقطار بدرجاته المتشابهة..وأيام وأسابيع وشهور فارغة من أي معنى..وعالم جديد لم أره كما ينبغي أن أراه.. ومواد غير مفهومة..وطلبة كلية أوغاد..وأساتذة مرضى..ومحاضرات غير مفهومة..ومواد غير مفهومة..وكتب غير مفهومة..
ومدينة جامعية.. ووجبات قذرة..وتفتيش ليلي..وصلاة في الجامع الذي يسيطر عليه الإخوان..وصراع بينهم وبين السلفيين..
حتى العودة مرة أخرى للزقازيق..
لتذهب هذه الأيام للجحيم..
لأعود مجددا لهذه الأيام..بعد عشر سنوات..
فأختفي من أمام عيني..ويعود الطريق إلى ما كان عليه..
لأكتشف أن شيئا لم يتغير..
ذات الأكشاك المتراكبة..ذات الطرقات الضيقة..ذات الترام المتهالك..ذات القضبان..والحصى بينها..ذات التراب..
ذات الأيأم..
لم يفتك الكثير يا صديقي..
*-*-*
أدخل للمنزل..فأسمع صوت السيدة المسنة: "مين..؟"
هذه السيدة إما أنها تهوى مشاهدة أفلام الرعب..التي يتسلل فيها أحدهم في وسط النهار وسط منطقة مزدحمة لمنزل عجوز ثرية ليقتلها ويأخذ مجوهراتها التي تخفيها تحت وسادتها..أو أنها قرأت الجريمة والعقاب لديستوفيسكي..
لا بأس..
أجيب بأنني: أنا "أحمد" يا حاجة..
أصعد بهدوء على السلم..لأنها في المعتاد تكون جالسة لتمارس هوايتها في الطبخ بمدخل الشقة حيث يقع المطبخ..
كل شيء غريب بهذه الشقة..
ألقي السلام وأكمل الصعود للسطح الذي تحول لشقة..
أدخل..أتصنع المفاجأة بالفراغ..
أجوب خلال الشقة قليلا..ثم أدخل للحمام..آخذ حماما سريعا..
أصلي الظهر..ثم ألقي بنفسي على السرير..
نوما هانئا يا فتى..
*-*-*
أستيقظ من الحر..ومن قسوة الفراش..
أنظر للساعة..الرابعة تقريبا..
أقوم لأصلي العصر..وأنزل للبحث عن أي شيء يصلح للإفطار..
أفاجيء أن هذه المحلات خاوية على عروشها..إما مغلقة..أو لا يوجد شيء فيها..
درس آخر يا صديقي..المحلات تغلق أبوابها قبل الإفطار..
كان عليك أن تدرك ذلك..
ثم أجد ذلك المخبز..أشتري بعض المعجنات..بيتزا..وباتيه صغير الحجم..وزجاجة بيبسي..
إفطار شهي ورائع..
أصعد للمنزل..
تنادي السيدة العجوز: "مين..؟"
أجيب بصبر: "أيوة يا حاجة..أنا أحمد.."
أصعد..أدخل للشقة..أستمتع بسخونة الهواء والسقف والحوائط..
أفتح الشباك وأستمتع بالمنظر الرائع..سقوف منخفضة مهدمة..وأسطح ممتلئة بأشياء متربة..وشوارع ضيقة يكاد السائر فيها أن يدلف لشقتي..
أسمع صوت الآذان من مكان قريب..أجلس للمكتب..وأجهز الطعام..
أشرب بعض الماء..وبعض البيبسي..
ثم أبدأ الأكل..
*-*-*
اللعنة..وكأن هذا ما ينقص هذا الإفطار الشهي
فواتح شهية..
البيتزا بها فلفل حار..شكرا لك أيها الخباز الماهر..
أكمل أكلي ببعض الباتيه..ثم أشرب بيبسي مجددا..
أقوم للحمام..أصلي المغرب..
ثم لا شيء..
وبما أنه لا شيء..فيجب أن أنام..
هذه هي قواعد الحياة الغير رحيمة بأمثالي..
أنام..أنام..أنام..

صورة للبيوت المواجهة لشقتي - منشية الصدر - القاهرة
صورة أخرى للبيوت المواجهة لشقتي - منشية الصدر - القاهرة 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قسم الجراحة - حوادث 3

مستشفى العباسية..العيادات الخارجية..17

مستشفى الأطفال..8