م.العباسية..وحدة السيدات المطورة..14

القاهرة..
م.العباسية..وحدة السيدات المطورة..
الإثنين: 13 سبتمبر 2010  -  12:30 ظهرا..

تقول لي: لفد استراحت..
بينما أنظر إلى اللا شيء..
لا أجد أي تعليق..
هناك تلك الأوقات التي ترجو أن تمر فقط..
*-*-*
ماتت "ليلى"..
تذكر أنت تلك المريضة المتقدمة في السن..التي حدثتك عنها سابقا..
كانت قد انتهت تماما بأثر المرض النفسي والعزلة واليأس..
هيكل سفينة مهجورة قضى عليه الصدأ..لكنه لا يزال يكافح كي تظل ساريته في الهواء..
رأيت سابقا ذلك البرنامج..الحلزون الأم التي تحتوي صغارها بداخلها..تتركهم يتغذون على أحشائها..يكبرون..بينما تنتهي هي ببطء..
في النهاية يذهبون لحال سبيلهم تاركين وراءهم صدفة فارغة..
 تذوي بعد وقت طويل..تقول أن هناك من عاش بداخلها يوما..
"سأقرأ فيما بعد تعبيرا بلاغيا قيما يصف حالة مريض كهذا: صدفة فارغة – An empty shell، للدلالة على أن روحه تموت قبل جسده بكثير.."
ماتت ليلى في فترة الأجازة التي قضيتها بعيدا عن القسم..
ماتت..ولم أعرف إلا حين أخبرتني رئيسة التمريض بشكل عارض..وتقول لي: استراحت..
بينما أنا أطيل النظر للا شيء..
*-*-*
في العالم الغربي يطلقون مسمى "الموت الرحيم" على ذلك الموت الذي ينهي حياة المريض برغبته..وعلى يدي طبيب..
حين يصل المريض لمرحلة متقدمة من المرض..لا يستطيع احتمال آلامه أو تبعاته..حين يدخل في غيبوبة كاملة..أو حين يتوقف قلبه عن العمل..
قالوا كثيرا أن ذلك ما هو إلا انتحار..وأن ما دام هناك سبيلا للحياة..فعلى الانسان أن يحيا..
يتوقف الطبيب عن أداء عمله..التطبيب: أن يرعى مرضاه..أن يداويهم..أن ينقذهم من الموت..أن يعيدهم للحياة..أن يحارب حتى النهاية..
يتوقف عن كل ذلك..ليراقب المريض في لحظاته الأخيرة..
يتوقف مثل الأجهزة التي تحاصر المريض وتبقيه على قيد الحياة..ليذهب المريض إلى خالقه..
أتخيل نفسي مكانه..عندما تموت "ليلى"..
وتقف بجواري رئيسة التمريض..تقول لي: استراحت..
وأهز رأسي بلا معنى..
*-*-*
كنت طويلا أوقن أن الموت ما هو إلا مرض آخر..
"مرض مميت"..
فالموت ليس عكس الحياة..هو مرض..
لم نكتشف بعد سره..ولا المسبب له..ولا الطريقة التي تموت بها أجسادنا..وتخرج منها أرواحنا..
فكرة تخيلية عن أننا سنقهره يوما بكبسولة..بشريط من الحبوب..بشربة دواء..
الموت مرض مثل السل والسرطان وتصلب الشرايين وألزهايمر ونزلات البرد والإيدز..
ومثلما يفضي مرض إلى مرض..قد يفضي مرض للموت..
المفترض أن أكون قد تجاوزت هذا الأمر رومانسي النزعة..وطفولي المكنون..
المفترض أنني مررت بسنين الامتياز..والتكليف..وأنني أحيا في هذه الدولة العظيمة..
أحيانا نكون في غاية الكآبة لنصدق الحقيقة..ننكرها فقط لنشعر أننا فقط أقوى..أننا أفضل..
تقول لي رئيسة التمريض بينما تكتب شيئا ما في ورقة: استراحت..
وأوقع بحروف اسمي الثلاثية في صمت..
*-*-*
المريضة "ليلى" قد ماتت فعلا..أصبحت جثة هامدة باردة ستتحلل قريبا كتلك الحلزون..
لكن الحلزون كانت لها حياة..هدف خلقت من أجله..واستمرت الحياة بها بعدها..
فلم عاشت "ليلى" إذن..
ولم ماتت..
أكتب في الأوراق التشخيص الذي عاشت به حياتها وعرفت به..
خرف الشيخوخة..الفصام..
تشير إلي الممرضة لأملأ خانة الزيارات: لا يوجد..
ستدفن في مقابر الصدقة بمعرفة إدارة المستشفى..
أنهي الأوراق جميعها..وأوقع..تمضي الممرضة لإنهاء الإجراءات الورقية..
أخرج من القسم وأنظر إلى الحديقة الصغيرة في الخارج..
الأعشاب الصغيرة المتناثرة..الشجر العتيق..العمال..صندوق القمامة..القطة التي تعبث في شيء ما..صندوق أحمر..وخرطوم المطافيء الذي يسرب المياه..الذباب..وآشعة الشمس المعتدلة تنير كل شيء حولي..
أقول لنفسي في خفوت: استراحت..
ليرحمها الله..
وليرحمنا جميعا..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قسم الجراحة - حوادث 3

مستشفى العباسية..العيادات الخارجية..17

مستشفى الأطفال..8