مستشفى العباسية..وحدة السيدات المطورة..7

القاهرة..
مستشفى العباسية..وحدة السيدات المطورة..
الثلاثاء: 20 يوليو 2010  -  11:15 صباحا..
وحكايات المرضى لا تنتهي..
تتشابه في بداياتها..
ثم تختلف..تتباعد في تفاصيلها..
لكنها تعود فتتشابه في نهاياتها..
*-*-*
كان هناك "زينب"..
شابة في أواخر الثلاثينيات..تعاني من حول وحشي في عينيها.."يتباعد مركز العينين عن بعضهما"..
سمراء..وقصيرة الشعر..
قصر الشعر هو السمة الأساسية هنا..تقوم الممرضات بقص شعورهن لئلا تكون مصدرا لنقل عدوى القمل وحشرات الشعر..
يقومون بقصه بطريقة خرقاء..تخلو من أي أنوثة..لكنه عبء مطلوب يقع على عاتقهم في النهاية..يقومون به على كل حال..
تأتي "زينب" لتسألني كل يوم عن الخروج.."أنا عايزة أروح.."
كنت في البداية أتأمل ملفها باهتمام..
ثم أدركت أنه لا فائدة من ذلك..
هذه حكاية قديمة مضى عليها زمن طويل..حالها في ذلك مثل حال الأخريات..
كانت من الصعيد..أسيوط على ما أذكر..تركها أهلها هنا..ونسوا أمرها تماما..
سنسن طويلة مرت..فصارت الكلمات بلا معنى..
"أنا عاوزة أروح.."
هذه ماتت بالنسبة لهم..فلماذا ستعودين إليهم..؟
تسألني عن الرحيل.."أنا عاوزة أروح.."
أتحاشى النظرات..وأقول مرارا وتكرارا.."إن شاء الله قريبا.."
آه يا صديقي..
هل سيغفر لنا الله كل هذا الكذب..؟
*-*-*
"زينب" الأخرى كانت أكبر سنا بعدة سنوات..
طويلة..نحيلة..بشعر رمادي قصير..وعينين ذابلتين..
سنين طويلة مرت عليها هنا..ثم أصيبت مؤخرا بنوبة من سعال وارتفاع درجة الحرارة..وتضخم في البطن..
بعض الفحوصات والآشعات هنا..ثم آشعة مقطعية في مركز طبي خيري تابع لمسجد قريب..
لندرك أن الأمر ليس سوى بداية دوامة كبرى..
أطباء الباطنة هنا أضعف حالا بكثير من زملائهم..لذلك تم تحويلها لأقرب مستشفى..الدمرداش..
هنا..أقترب لأول مرة من الوصمة في أسوأ صورها..
يرفض القسم في الدمرداش حجز المريضة بداعي أنها مريضة بمرض نفسي..ويشترط وجود ممرضة معها..حتى انتهاء فترة الفحوصات الكاملة..ثم عودتها للمستشفى..
بعيدا عن مهاترات المرض النفسي ووصفه بهذه الأهوال المنكرة..وبعيدا عن ظروف القسم هناك..لكن فكرة الممرضة هذه بالغة التعقيد..وليست بهذه السهولة..
أساسا يوجد نقص هائل في عدد الممرضات المدربات على التعامل مع الأمراض النفسية..وفي النوبتجيات تتواجد واحدة أو اثنين على الأكثر في كل قسم..بداخل كل وحدة..فمن الصعوبة البالغة تواجد ممرضة مخصصة لمريضة منفردة بعيدا عن المستشفى..
إنها سمعتنا التي تراكمت على مدار سنوات طويلة يا صديقي..
ومن يدفع ثمنها هو المرضى في المقام الأول..
السمعة التي تبدأ في الشارع..وتنتقل كعدوى ما إن تطأ قدمك العيادة الخارجية..حتى دخولك في الأقسام الداخلية..
السمعة التي تطاير رذاذها على العاملين بالمستشفيات النفسية كذلك..
هنا..الجميع يتصرف –ربما رغما عنه- كما كان أطلس يريد أن يفعل..
يلقي بالمسؤولية على كتف أقرب الناس إليه..ثم يذهب لحال سبيله..
كنت أشعر بالغضب..
لكني ما إن أضع نفسي في مكان الآخرين..أشعر بوضعهم البائس..الذي –ربما- لا يقل بؤسا عن وضعنا نحن..
أعود فأشعر باليأس وقلة الحيلة..
هذه مصيدة لعينة..
لذلك..بلجأ لحل أكثر قسوة..
إجبار الأهل على أخذ مريضتهم التي تركوها..بعد أن يتضح جليا عدم قدرة المستشفى على علاج المريضة..
والقانون هو من يعطينا الحق في ذلك..
المريضة من ناحية الأمراض النفسية متحسنة..وتستطيع الخروج..
نحن لسنا أكثر رحمة بها من أهلها..ولسنا جمعية خيرية..وأهلها –ابنتها وأبنائها الآخرين- لديهم مسؤولية تجاه أمهم..
آخر كلمات المريضة قبل خروجها –رغما عنها- هي أنها تريد أن تبقى هنا..
هي لا تعرف شيئا عن العالم في الخارج..ونحن أقرب إليها من أبنائها الذين خذلوها..وتركوها هنا..
هي ماتت..ولا سبيل لعودة الموتى في م.العباسية..
*-*-*

بعد ذلك سمعت عن محاولات الأهل المستميتة للتخلص منها بإدخالها المستشفى مجددا..
لا أعرف إذا ماكانوا سينجحون في هذا..
كل ما أعرفه أننا كلنا مذنبون..
كلنا مذنبون..


تعليقات

  1. السؤال : هل مازلت تذكر تلك الحالات البائسة بعد مرور عدة سنوات وهل يراودك شعور معين تجاهها أم أن الحياة تفعل ما تفعل بالذاكرة والاحساس ؟

    ردحذف
  2. أحوال بتروح وبتيجي..وبتتغير كل وقت والتاني..
    الدنيا اتغيرت كتير في شهر أكتوبر من نفس السنة..واتغيرت تماما في 2011 بعد الثورة..
    ورجعت اتغيرت تاني مع تراجع الثورة وتراجع كل خطط الاصلاح على كل المستويات..
    على رأي الفيلم بتاع فاتن حمامة:
    "يوم حلو..يوم مر.."
    :)

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قسم الجراحة - حوادث 3

مستشفى العباسية..العيادات الخارجية..17

مستشفى الأطفال..8