مشتول السوق..وحدة الصحافة..19

مشتول السوق..
وحدة الصحافة..
24 – 12 – 2009  -  2:30 ظهرا..
عاد الرجل المفتش بالجهاز المركزي للمحاسبات لينهي مهمته..
كان الرجل قد أعطى مهلة يومين حتى يقوم أمين المخزن –الذي لم يصدف لي رؤيته سابقا- بتقييم أوراقه..
تقييم هي لفظة مهذبة لـ "تظبيط"..
الأوراق الخاصة بالعهدة وما إلى ذلك..
أمين المخزن عرفت أنه مصاب بورم ما في الفك..ودخل في دوامى المرض العتيدة..جراحة يتلوها علاج كيماوي..ثم جراحة يتلوها علاج كيماوي..إلخ..
وبهذا يحق له حسب قوانين التكافل المصرية العتيدة في العمل الحكومي أن يبتعد كما يشاء..بينما لايزال يخذ راتبه كاملا –الذي هو ملاليم- على لا شيء يقوم به..
ومن حين لآخر فقط يأتي لكي يلقي السلام على من بالوحدة..
ادرك أنني بشكل أو بآخر متسبب في هذا..
لكن –واللعنة عليك ياصديقي-  ماذا تريد من أن أفعل..؟
أنا عاجز تماما عن فعل أي شيء..
محاصر تماما..
محاصر حتى بداخل نفسي..ولا أمل بفرج قريب..
*-*-*
حين وصلت للوحدة..ذهبت لأقوم بشحن رصيد هاتفي المحمول..
هناك محل في الجوار..على بعد خطوات..
حين عودتي وجدت أن الدنيا انقلب حالها..
كنت أتوقع ذلك..لكن ليس بهذا الشكل..
الحقيقة أن الأمر أن سيدة ما..تعمل مفتشة بالإدارة قامت بالمرور اليوم..وهي بانتظاري في المكتب..
هل هي صدفة..؟
تكون أحمقا لو تصورت هذا..
يبدو أن هناك تنسيقا ما بين المفتشين..وأن الأخبار طارت للوغد مدير الإدارة..فقام بعمل اللازم ليبين أنه وغدا بالضرورة..
فأصل للوحدة..وأجد أن السيدة قامت بالواجب..
قامت بالشطب على بعضهم..وتحويل البعض الآخر للتحقيق..وصلب البعض الآخر على باب الوحدة..إلخ..
الشيطان الصغير العابث الكائن فوق الباب الخارجي للوحدة..مستمتع بكل هذا..
أشرت له بأن يهبط ويحترم مقام المفتشة العالي..
لكنه أشار لي بما معناه: "تبا لك.."
*-*-*
وصل المفتش أخيرا..جلس..تعرف إلى المفتشة الأخرى..
كقوانين المؤسسات الحكومية العريقة في الفساد..أتى الشاي..وبدأت الحكايات..
حكايات طويلة متشعبة لا تعرف من أين ابتدت ولا أين ستنتهي..
أشبه بتلك القصص الخرافية التي يذهب فيها الشاطر حسن لملاقاة أمنا الغولة..فيقع في حبها..وينسى حبه القديم..حتى تخونه أمنا الغولة مع أبو رجل مسلوخة..لأن الآخر لا يعاملها باحترام كاف..
يدور الحكاية..يدلي كل منهم برأيه في حكمة..يتبارى الاثنان في الحكايات..بينما يجلس الباقون يمصمصون بشفاههم في بانتظار حكمة بالغة..يؤمنون على الكلام..وينظرون لي في النهاية..فأبتسم..وأقول كلمة بلا أي معنى..
"امممم..".."فعلا..".."شيء غريب..".."شيء هائل..".."شيء صعب.."..
لا يوجد أي معنى..سوى أنني على قيد الحياة..فأكون أنا بمثابة النهاية القاطعة دوما للحكاية..
ومن ثم..تبدأ حكاية جديدة..
*-*-*
أمين المخزن لم يكن قد أتى بعد..لذلك بدأت حكاية "البروبليز"..
"البروبليز"..
ألم تسمع عنه..؟
إنه الذي سيشفي الأمراض جميعها..الضغط..السكر..الجذام..العقم..وربما بالتأكيد الغباء منقطع النظير..!!
ابحثوا عنها لدى العطارين..قل له أنك تريد بعضا من "البروبليز"..لن تجده بسهولة..قل له أنك من طرف فلان..احجز منه كمية..
لا تبحثوا عن العلاج لدى الأطباء..ولا الدواء من الصيادلة..
إنه "البروبليز" ياسادة..
*-*-*
ثم يأتي الشاي..
المزيد من الشاي..
أتوقع أن تأتي الشيشة في أي لحظة الآن..
*-*-*
أتى أمين المخزن أخيرا..
رجل بائس أعتقد أنه تجاوز الأربعين..لكن يبدو مظهره وكأنه وصل للستين..
حول فكه ضمادة ملوثة..يبتسم ببؤس ورياء للسيد المفتش..شعرت بالشفقة على هذا الرجل..
رجل مريض..مضطر للعمل من أجل لا شيء..
هنا وجدت السيدة المفتشة أن الوقت قد حان أخيرا للذهاب..استأذنت للقيام..
خرجت..وشعرت معها بأن أنفاسي تعود للانتظام..
هانت ياصديقي..هانت..
*-*-*
ذهبنا مع السيد المفتش..مع السيد الأمين..نرمق الأموال المهدرة..المكومة في كل ركن في الوحدة القديمة..
شيء لعين..
شيء لعين حقا..
لكن هذه أمور بسيطة لا داعي لنشغل أنفسنا بها..
*-*-*
عدنا للوحدة أخيرا..
جلست بانتظار  أن ينهي الرجل تقريره..أو أن ينهي كلامه بالأحرى..
لكنه ظل يحكي..ويحكي..ويحكي..
رباه..هذا الرجل لديه حرمان خرافي من الحديث فيما يبدو..
والأسوأ أن الآخرين لا يقاومون رغبتهم بالحديث هم أيضا..في كل شيء..في كل الأمور..
في كل شيء لعين وبغيض ومقيت..
كنت أريد أن ينتهي كل شيء..
كنت أريد أن أتخلص من هؤلاء بأي شكل..
رغبة جنونية بالركض من هذا المكان..
لما لا نهاية..
*-*-*
هل انتهى الأمر..
لا..لم ينتهي الأمر بعد أيها الوغد..
الرجل سيرحل إلى حيث أتى..وطريقنا واحد في النهاية..
ربما تكون هذه من تلك الأيام التي أكره أن تكون فيها سيارتي معي..
ركب الرجل بجواري..ولمحت الشيطان الوغد يلوح لي بيده أن ألقاك على خير..
وابتسامة خبيثة تتماوج على وجهه اللعين..
*-*-*
اتضح لي أنه قد اختصني الرجل بالقدر الأكبر والأفضل من الحكايات..
الحكاية الأفضل على الاطلاق -التي تكون دوما على قدر المساواة والمنافسة مع حديث الكرة- بين أغلب الذكور المصريين:
الجنس..الفحولة..النساء..
والمقارنة العظيمة دوما بين القدرات الجنسية الهائلة لدى الشباب المصري..مقارنة بالبغال في دول الخليج..
يحكي الرجل بفخر وبتلذذ قصة السعودي البغل الذي كان يفعل كذا وكذا..بينما الشاب المصري يفعل كذا وكذا..
اشمئزاز وتقزز بالغين كانا يغمرانني..
كنت صامتا أغلب الوقت..
ربما لم يلاحظ ذلك في البداية..لكنه انتبه ربما قرب وصولنا..وانقلبت الآية إلى كلمات من نوعية: الفساد والرشوة والمهمات العظيمة الصعبة التي يواجهها في الجهاز..
وصلنا في النهاية..بعد أن كنت ظننت أن الخلاص الوحيد ربما سيكون بسقوطي في الترعة الموازية للطريق..لا بأس..
شيء مبشر بالأمل..
هناك دوما نهاية لكل شيء..

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قسم الجراحة - حوادث 3

مستشفى العباسية..العيادات الخارجية..17

مستشفى الأطفال..8