حياة طبيب

16 – 5 – 2008 – 6:00 صباحا.. ساعة تقريبا منذ بزوغ الفجر.. هذا هو وقت السلام الشامل.. حين يخيم الصمت على الكون كله.. ثم تسمع صوت الطيور من فوق الأشجار.. وترى خيوطا ضئيلة من النور.. لا ترى أحدا في مكان ما.. تشعر بكل هذا الفراغ من حولك.. وينطبع هذا الشعور عليك.. إنها اللحظات التي يغيب فيها الحاضرون..ولم يأت القادمون بعد.. اللحظات التي تشعر فيها بما يدعى.. السلام الداخلي..

12 – 5 – 2008 – 1:05 بعد منتصف الليل.. فلنتخيل أننا مع طبيب امتياز حديث الخبرة..في برنامج " يوم في مستشفى الجامعة ".. وهناك مذيعة سخيفة تسأله عن موقف واجهه اليوم, ويستحق ذكره.. ولنتخيل الطبيب الشاب يهرش في شعره, ثم يجيب بعد فترة من التفكير.. النهاردة أخدت عينة " A B G ".. ولنتخيل معا أنني هذا الطبيب الشاب.. دعوني أحدثكم عن هذه الخبرة العظيمة.. *-*-* A B G ..هي اختصار لعبارة.. "Arterial Blood Gases" .. غازات الدم الشرياني.. وهو اختبار نلجأ إليه في حالة الغيبوبة أوفي مرض السكر لقياس نسبة تشبع الدم بالأكسجين , وكذلك قياس نسبة البوتاسيوم والبيكاربونات..نسبة الحمض والقلوي باختصار.. وفي العناية يعتبر هذا اجراءا روتينيا يوميا.. اليوم..كانت أول مرة لي أتحصل فيها على عينة دم شرياني.. نظريا..المسألة بسيطة..تحس الشريان..تدخل الابرة عموديا..تسحب للخارج..فيتجمع الدم الأحمر في المحقن.. سهلة..؟! حسنا..الأمر لم يكن بهذه البساطة.. أنت لا ترى الشريان..مثلما يظهر الوريد واضحا أمام عينيك..فقط تشعر به.. دعك من الألم الذي يشعر به المريض.. ودعك من أن بعض المرضى غير متعاونين عل

15 – 5 – 2008 – 4:30 فجرا.. طلبت مني زميلتي أن أحل محلها في مراقبة إحدى الحالات..وذلك نظرا لأنها لم تعد قادرة على فتح عينيه على حد قولها.. وافقت بالطبع..فلاسبيل للرفض.. جلست على الكرسي المجاور للسرير على أن أقوم بقياس الضغط والنبض كل ساعة.. وهكذا بدأت السهرة في الساعة الثالثة والثلث فجرا.. *-*-* كانت المريضة – وعمرها خمس وستون عاما – قد تلقت علاجا خاصا لعلاج الاحتشاء البطيي ( جلطة في القلب ) الذي أصيبت به..وهوعلاج خطر في مثل هذه السن..يجب أن يعطى بحذر شديد , وتحت مراقبة طبية دقيقة.. كان من الواضح منذ البداية وجود مضاعفات العلاج , والتي تسببت على الأغلب في نزيف مخي حاد..أعلن عن نفسه في صورة غيبوبة عميقة.. ولذلك كان من السهل توقع ماسيحدث.. وإن كنت أتمنى ألا أراه.. *-*-* بدأ تباطؤ نبضات القلب في الساعة الثالثة وخمس وأربعون دقيقة..لتدخل في توقف مفاجئ لعضلة القلب.. ثم رأيت المشهد الذي بدأت في التعود عليه.. الركض..احضار أجهزة الاحياء الصناعي..أنبوب القصبة الهوائية..خطوات الانعاش السريعة.. ضغطات قوية على الصدر في محاولة لتنشيط القلب..أتروبين في الوريد..مع أدرينالين.. خمس دقائق..عشر دقائق..خمس

14 – 5 – 2008 – 10:25 مساءا.. مأساة جديدة.. وأعتقد أنها الأسوأ على الاطلاق.. شيء سيء تماما أن يكون هناك مريض بحاجة إلى الحجز في العناية المركزة.. أما الأكثر سوءا أن لا توجدى أسرة فارغة تسمح بدخول المريض.. أما الأسوأ على الإطلاق..فهو أن يوضع المريض على الأرض..ويتلقى علاجه عليها.. ينحني الطبيب ليقوم بفحصه..كما في العيادات الشعبية القديمة.. كما في أحقر مكان في العالم.. كما في دولة من دول العالم الثالث التي تتشدق بحضارة آلاف الأعوام.. قمة السخرية.. أن تنظر حولك في وحدة العناية المركزة..لترى السيراميك الذي يغطي الحوائط.. أجهزة التكييف الحديثة..وأجهزة المراقبة المتطورة المتصلة بشاشة مركزية على كاونتر رخامي.. في المقابل.. ترى الأسرة المتهالكة..حوامل المحاليل الصدئة..والشاشة الحديثة..ذات الشاشة السابقة..معطلة والتي لاتستعمل من الأساس.. وأن ترى المستلقون على غطاء رث على الأرضية الفاخرة.. مستلقون في استسلام.. بانتظار أن يفرغ سرير ما..لصعود مريض أو نزوله.. أزمة..؟! بالتأكيد ياصديقي هي أزمة..وأزمة بشعة كذلك.. وسمها كما شئت..سوء تخطيط..سوء توزيع..سوء إدارة.. أو حتى سوء العبور.. لا فارق.. ستشعر بهذا

13 – 5 – 2008 – 12:05 بعد منتصف الليل.. أحيانا أقع في مشكلة سخيفة..بصفتي كطبيب امتاز.. حين نرتدي المعطف الأبيض ، ونضع السماعة حول أعناقنا..فنبدو كما الأطباء..على رأي أحد النواب هنا.. حين " نبدو " كالأطباء..يرانا المرضى..وينادينا بعضهم.. دكتور..لو سمحت.. ثم تنهال الأسئلة..والشكوى.. أحس بانقباض شديد في تنفسي.. أشعر بالعطش..هل أشرب.. هل أستطيع أن أذهب للحمام.. أشعر بالغثيان..ماذا أفعل.. هل هناك آشعة لي اليوم.. هل أخرج اليوم.. هنا تتحول المشكلة لورطة بشعة.. لا أنا قادرين على إفادتهم بنعم..أو لا.. ولا أنا قادر على إفادتهم بمعلومات مؤكدة.. هنا أضطر إلى إعلان الحقيقة المرة.. أنا طبيب امتياز..وسأسأل الطبيب.. أو ألجأ إلى إجابات دبلوماسية..مثل..لحظة واحدة ( اللحظة التي تمتد إلى ساعة النصراف ، وأحاذر فيها أنألتقي بذات المريض مرة أخرى )..أو..ألم يقل الطبيب ذلك.. أو..إن شاء الله..أو..ربنا يقومك بالسلامة.. أو..ربنا يكرمك..!! لا نملك أي معلومات..أي خبرة.. لا نعرف النظام.. و لا يتبرع أحد بإفادتنا..إلا بالسخرية غالبا..من قبل التمريض والعمال..وبالطبع من الطبيب المقيم..! مالعمل إذن.. ربما المشك

12 – 5 – 2008 – 9:00 مساءا.. بداية أخرى غير موفقة.. يبدو أن سنة الامتياز هذه لن تعدو أكثر من بدايات غير موفقة.. ما علينا.. لقد انتهت العشر أيام الأولى في عناية القلب..والآن حسب الجدول من المفترض أن ننتقل إلى عناية الباطنة العامة..حيث الحالات التي تنتظر تفسيرا ما لمرضها..أو الحالات التي لاتجد أسرة في العنايات الأخرى.. الساعة الآن التاسعة مساءا..ولا أحد قد ظهر بعد في الأفق.. لا زملاء..لا نواب.. لا أصدقاء.. لا أحد تقريبا.. مرة أرى الوجود مثل العدم.. اللعنة.. يبدو أنهم سيفسدون علي هذه الساعات الرائعة.. ويبدو أن الأمر بلا جدوى حقا..

9 - 5 - 2008 – 10:55 صباحا.. هذا هو اليوم الأخير لي هنا.. لكن لا أرغب بالصعود.. لا أدري.. ربما هو احباطي الذي جاء مبكرا هذا الصباح..بسبب موضوع شخصي بالأساس.. ربما أني قد شعرت باليأس..وأيقنت – أخيرا - أن صعودي أو عدمه لن يشكل فارقا.. وربما أنني أدركت أنني لن أجني بصعودي غير المزيد من الآلام.. والمزيد من العجز..

9 - 5 - 2008 – 10:55 صباحا.. اليوم هو قبل الأخير لي هنا في هذه العناية.. ربما حان الوقت لأتحدث عن بعض المآسي التي لايراها المرؤ تتكرر كثيرا في حياته.. أو ربما تتكرر..! فكثير من الأمور تظل بلا تغيير.. -*-*- هناك جهاز التنفس الاصطناعي.. يوجد هنا جهازان..أحدهما – في الحقيقة – لايعمل.. عندما دخلت العناية هنا, كان يوجد مريض موضوعا على أحد الجهازين.. جيد.. لا..ليس جيدا على الاطلاق..! فهذا الجهاز – الذي يعمل – ليس سليما بدوره..يوجد تسريب للأوكسيجين من أحد الوصلات.. هذا التسريب مستمر من فترة طويلة..حتى انتبه إليه الطبيب.. قام بطلب الصيانة..وأثناء ذلك كان يقوم بتثبيت الوصلة بيده.. جاء فني الصيانة بعد نصف ساعة تقريبا..وقام بتغيير الوصلة.. لا أعرف ماهي حالة الرجل الآن..ولا أريد أن أعرف.. ليشمله الله برحمته.. -*-*- أول التعليمات التي يتلقاها مريض القلب, هي أن يظل في وضعية نصف جالس - نصف راقد, حتى لا يشعر بضيق في التنفس.. اللطيف هنا أن معظم الأسرة مسطحة تماما..وبوسادات منخفضة.. ومع ذلك ينام معظم المرضى – أو يحاولون - بشكل طبيعي.. وهذا شي يتحدى الحقائق العلمية بكل تأكيد.. -*-*- كانت هناك مريضة.. كل

6 - 5 - 2008 – 10:35 صباحا.. عادت إلي الذكرى البغيضة، لتضربني بقسوة.. أتذكر الملامح المجهدة, والصوت المنهك، والغيبوبة العميقة.. أبي.. أرى صورته الآن في المريض المسجى أمامي.. ذات الصورة.. ذات الأمراض الشنيعة التي هاجمته بضراوة في عمره الأخير.. ذات الوجوه المحبطة الباكية من حوله.. وذات الألم.. ذات الألم.. كنت أسمع صوته المختنق..أسمع صوت ابنته الباكي.. وأكاد أنهار تحت وطأة الوضع المهين.. أقول لنفسي..تمالك نفسك يافتى.. تمالك نفسك.. أكمل عملك..وادع له بالشفاء.. ولموتانا بالرحمة.. -*-*- كان الطبيب النائب قد طلب مني مرافقة المريض إلى حيث يخضع لآشعة السونار.. كانت مهمتي - على حسب وصفه – تقتصر على محاولة انعاشه, في حال إذا ما توقف قلبه عن الخفقان لسبب ما.. حسنا..ثم ماذا..؟! هل أظل أحاول انعاشه للأبد..مالمفترض أن يحدث بعد ذلك.. هل أستدعي أحدا..أم ماذا..؟! وهل أفعل ماقرأت عنه في عملية الانعاش..أم ماذا..وأين أدوات الانعاش الصناعي إذن.. ماعلينا.. يبدو أنني سأكتفي بأن تمر الأمور على خير.. وتظل كذلك.. -*-*- كان يتنفس بصعوبة.. الشيء الذي كان يشعرني بالمرارة.. مريض بالقلب, يستلقي على ظهره بشكل يخالف أ